لم يعد موضع اختلاف القول إن العالم يشهد تحولات سياسية واقتصادية كبرى، تشير إلى تغير ملحوظ في موازين القوى الدولية، وأن صراعات سياسية واقتصادية حادة قد بدأت بين القوة الأعظم: الولايات المتحدة الأمريكية، وبين القوى الصاعدة، وفي المقدمة روسيا الاتحادية، والصين الشعبية. ولعل أبرز تجسيد للحالة الصراعية الجديدة، هي الحضور الروسي القوي في الأزمة السورية، والتنافس الاقتصادي الحاد بين أمريكا، والصين، الذي تحول في الشهور الأخيرة، إلى مواجهات يومية.

هناك أيضاً صراع اقتصادي، وإن بدا أقل حدة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً تنافسية مع القارة الأوروبية، لا تختلف كثيراً عن تنافسها الاقتصادي مع الصين. وربما لن يكون بعيداً اليوم الذي تستعر فيه حدة هذا الصراع، إن لم يتراجع الرئيس الأمريكي ترامب، عن سياساته في تأجيج مشاعر التنافس والعداء مع الدول الكبرى، ومن ضمنها حلفاء أمريكا التاريخيين.

السؤال الذي يطرحه هذا الحديث، هو أين نحن العرب، من هذه التحولات. ما هو موقعنا فيها، وما هي قيمة تأثيرنا، وهل من دور يمكننا أن نلعبه في هذه التحولات، دور يجعلنا في موقع الشركاء، وليس الضحايا، أو التابعين لهذه القوة، أو تلك؟

الأجوبة عن هذه الأسئلة تقود إلى أسئلة أخرى، عن الأسباب التي جعلت أمتنا فريسة لقوى الهيمنة، في التاريخ المعاصر، وبشكل خاص عند التغيرات التي تحدث في موازين القوى الدولية؟ ولماذا نكون دائماً من الخاسرين في القسمة بين الكبار؟

أسئلة كثيرة، ومثلها علامات تعجب، قديمة وحديثة تختزل الشعور الجمعي للعجز، لماذا فشلنا ونجح غيرنا؟ وإلى أين ينبغي أن تتجه بوصلتنا؟

دخلنا الحرب الكونية الأولى، ضد السلطنة العثمانية، بمشروع حداثي، يطالب بالحرية والاستقلال والوحدة، وبطموح قوي لتأسيس دولة عصرية على أسس تعاقدية. وانتهينا بمشروعين غربيين مثّلا طعنة حقيقية لآمالنا وأحلامنا، هما اتفاقية سايكس- بيكو، ووعد بلفور. وعلى أثرها تأسس نظام عالمي جديد، عبرت عنه عصبة الأمم، ومبادئ الرئيس ويلسون، وتربعت على عرشه القوى التي طعنت أحلامنا، وتفننت في امتهان كرامتنا، والسيطرة على ثرواتنا ومقدراتنا.

ولم يقدر لهذه الحقبة أن تستمر طويلاً. لقد عبدت الأزمة الاقتصادية العالمية في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينات، لقيام الحرب العالمية الثانية. ومع اندلاع الحرب، تكشف أن القوى الاستعمارية التقليدية لم تكن في وضع يمكنها من الانتصار في تلك الحرب. لقد بات واضحاً بعد الاحتلال النازي لفرنسا، والقصف الجوي الألماني شبه اليومي، للعاصمة البريطانية، أن موازين القوة العسكرية والسياسية لم تعد في مصلحة تلك القوى التقليدية.

وكان بروز دور الاتحاد السوفييتي، ولاحقاً الولايات المتحدة الأمريكية، أحد وجوه تحول حقيقي وكبير في موازين القوى الدولية، وأن حقبة الاستعمار التقليدي باتت من الماضي. فكانت الفترة التي أعقبت نهاية الحرب، هي بحق مرحلة الاستقلال الوطني التي هي أهم معلم من معالم القرن العشرين. ولم يكن العرب استثناء من الواقع الجديد. فقد حصلت معظم البلدان العربية على استقلالها، إما بالكفاح المسلح، وإما بالتراضي والاتفاق.

لكن الحصول على صكوك الاستقلال لم يغير كثيراً من واقع الحال. لقد جاء تشكيل ما بعد الاستقلال مشوهاً ومزيفاً، ومتأثراً بالمناخ الدولي السائد آنذاك، حيث انشطر العالم إلى معسكرين، رأسمالي واشتراكي. ومعه انشطرت أنظمتنا العربية، مع هذا الفريق أو ذاك. اختار بعضنا الطريق الرأسمالي، واختار البعض الآخر الطريق الاشتراكي. وفي الحالتين لم نكن التحاقنا بصيغة الشركاء، بل بصيغة الأتباع.

وربما يجد ذلك تفسيره في أن تشكيل الأقطار العربية لما بعد مرحلة الاستقلال، هو تشكيل مشوه وزائف، لم يأخذ في الاعتبار حقائق الجغرافيا والتاريخ. تخلصنا من الحضور العسكري الاستعماري، ولكن ثقافاته، وعقدة النقص تجاهه، بقيت جاثمة فوق صدورنا.

ليس ذلك فحسب، بل إن حدود بلداننا الجديدة، لم تأتِ هي الأخرى متسقة مع حقائق الجغرافيا والتاريخ، بل وضعت لتخدم مصالح القوى التي رسمتها، وقد وضعت في قلبها، وفي أطرافها أسافين، تحول دون تقدمها، وأمنها، واستقرارها. فكانت ترجمة ذلك صراعات طائفية، وإثنية، ونزاعات حدود.

وفي ظل هذا الواقع المرير، غابت مشاريع الوحدة العربية، والتكامل الاقتصادي، وسلمنا إلى حين بالتضامن العربي، الذي لم يتعد طرحه مرحلة الشعار، وبات حتى هذا الشعار، قليل الحيلة، من الماضي، حيث تم طيّه، ومع طيّه، طويت معاهدات واتفاقات، كمعاهدة الأمن القومي الجماعي، والدفاع العربي المشترك، وكثير من الاتفاقيات التي تكتظ بها أرشفة جامعة الدول العربي.

أين سيكون موقعنا، في ظل التحولات الكونية، الجديدة؟ سؤال لا يشي واقع الحاضر بأنه سيكون مختلفاً عن سوابقه. ففي موروثنا العظيم، أن الله لن يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. والتغيير يقتضي أن يدرك العرب أن خلاصهم في اتفاقهم، وأن لا نهضة ولا تنمية ولا دور سياسي حقيقي، في معادلة القوة الكونية، إلا بوجود استراتيجية عربية موحدة قوية ورادعة، تقف بجسارة في وجه التوسع والعدوان، وتجعل من أمتنا قوة يحسب حسابها في موازين القوة الجديدة، وذلك للأسف لا يبدو واقعاً، ولكنه ليس مستحيلاً، متى ما امتلك العرب العزم، والرؤية الثاقبة.