قادتني الظروف الطارئة لأن أكون على هذا الكرسي، جلوس مؤقت بالطبع، وفي منطقة التكليف تلك المنطقة التي يجب أن تتعلم فيها أكثر وتمرن نفسك على ضغط أفضل، هذا الكرسي حين يكون مؤقتاً فهو يقدم لك دروساً رفيعة المستوى، ويفتح عقلك على ما لم تكن تعرفه وتعلمه لو كنت في مكان المتابع والمتأمل والمراقب لحال من توكل له مهمة القيادة في أي مؤسسة حكومية، وإن كانت المؤسسات الخدمية تختلف بطبيعة الحال لأن الحراك فيها لا يتوقف ووتيرة العمل تسير بطريقة سريعة، أو بمعنى أدق فالاحتياجات في هذا النطاق لا تتوقف.
ثمة من يظن أن من يحمل وصف المدير العام أو رئيس الدائرة المستقلة يتربع على منصة إغراء جديرة بالتهنئة والتبريكات ومشبعة بما يدهش ويبهج، وذاك ظن ليس في محله، فمثل هذه الأمكنة مقيدة جداً وتكون بمثابة العتبة الأخيرة للإنقاذ والعبور إلى محطات التفاؤل والحل.
حين انتهيت من المهمة القصيرة التي أوكلت لي قلت لأصدقائي المقربين ساخراً: «يترجل سعادة المدير العام من موقعه. شكراً للذين اهتموا بالدوام الرسمي، شكراً لمن لم يتذوق طعم التلذذ بالعمل وقيمته، شكراً للمستيقظين، شكراً للنائمين، شكراً للمحبين والكارهين، شكراً للصادقين وغير الصادقين.. وداعاً»، كنت أرى الوجوه المحيطة بي في هذا العبور السريع لا يكادون يخرجون عن كل الذين وجهت لهم الشكر وما صاحبه من الوصف، تحمل المسؤولية مكلف ومرهق ومنهك لمن يدرك ماذا تعني المسؤولية، وما هي أوجاعها ودهاليزها المعتقة بالصبر والتحمل، كل الذين يهنئون من قُدر لهم أن يكونوا يوماً على هرم منصب أو كرسي ومسؤولية لا يعرفون أن تهنئتهم لم تكن في مكانها، ليس لأجل من هنأوه، بل لأن مثل هذه الأمكنة تستحق الدعاء والدعم والمساندة أكثر من أي شيء آخر، وكل الذين يهنئون يدفعون بجمل المجاملات وحزمة التوقعات ورصيد الطموحات وربما الحديث من نوافذ العاطفة البحتة وهي لا تكفي بطبيعة الحال، فنسبة كبيرة من هؤلاء سيتخلون وينسون ويتذمرون لمجرد خلاف عابر أو عندما ينسحب المسؤول من المشهد لرغبة خالصة أو تحت مغادرة جبرية.
بريق كرسي المدير العام بريق تكليفي بحت، وهمٌ إضافي يضاف لقائمة الهموم التي تجود بها الحياة، وقت قصير أمضيته في هذا الكرسي صافحت فيه وجوهاً فرحت لي على اعتبار أن هذا الجلوس الاضطراري ليس إلا خطوة نحو البقاء والاستقرار، وهم ينسون أن الكلمات الطيبة والابتسامات المصاحبة إن لم تتقاطع مع الرغبات وحبال التفكير فسينتهي مفعولها سريعاً، ويجهلون أن من يأتي للأمكنة المباشرة للأفراد من دون تسلح بخبرة عريضة ووعي كبير وقدرة مبهرة ليس إلا كمن يدخل في معركة شرسة المكسب الوحيد فيها أن يخف وزنك وتكثر مخاوفك ويتقلص عمر الحياة والنشاط، وربما تتقلص معها قناعات الآخرين، تلك القناعات التي يمكن أن تتبدل في ظل أن زاوية الرؤية من مؤخرة القطار ليست كزاوية الرؤية من مقعد في الأمام.
أودع كرسي المدير العام على عجل، لأنه كالقهوة بالضبط، جمالها أن تحتسى وتشرب على مهل، ولا بد أن يتم تأملها وتسبح في النفس والذكريات.
نقلاً عن صحيفة «الحياة «
{{ article.visit_count }}
ثمة من يظن أن من يحمل وصف المدير العام أو رئيس الدائرة المستقلة يتربع على منصة إغراء جديرة بالتهنئة والتبريكات ومشبعة بما يدهش ويبهج، وذاك ظن ليس في محله، فمثل هذه الأمكنة مقيدة جداً وتكون بمثابة العتبة الأخيرة للإنقاذ والعبور إلى محطات التفاؤل والحل.
حين انتهيت من المهمة القصيرة التي أوكلت لي قلت لأصدقائي المقربين ساخراً: «يترجل سعادة المدير العام من موقعه. شكراً للذين اهتموا بالدوام الرسمي، شكراً لمن لم يتذوق طعم التلذذ بالعمل وقيمته، شكراً للمستيقظين، شكراً للنائمين، شكراً للمحبين والكارهين، شكراً للصادقين وغير الصادقين.. وداعاً»، كنت أرى الوجوه المحيطة بي في هذا العبور السريع لا يكادون يخرجون عن كل الذين وجهت لهم الشكر وما صاحبه من الوصف، تحمل المسؤولية مكلف ومرهق ومنهك لمن يدرك ماذا تعني المسؤولية، وما هي أوجاعها ودهاليزها المعتقة بالصبر والتحمل، كل الذين يهنئون من قُدر لهم أن يكونوا يوماً على هرم منصب أو كرسي ومسؤولية لا يعرفون أن تهنئتهم لم تكن في مكانها، ليس لأجل من هنأوه، بل لأن مثل هذه الأمكنة تستحق الدعاء والدعم والمساندة أكثر من أي شيء آخر، وكل الذين يهنئون يدفعون بجمل المجاملات وحزمة التوقعات ورصيد الطموحات وربما الحديث من نوافذ العاطفة البحتة وهي لا تكفي بطبيعة الحال، فنسبة كبيرة من هؤلاء سيتخلون وينسون ويتذمرون لمجرد خلاف عابر أو عندما ينسحب المسؤول من المشهد لرغبة خالصة أو تحت مغادرة جبرية.
بريق كرسي المدير العام بريق تكليفي بحت، وهمٌ إضافي يضاف لقائمة الهموم التي تجود بها الحياة، وقت قصير أمضيته في هذا الكرسي صافحت فيه وجوهاً فرحت لي على اعتبار أن هذا الجلوس الاضطراري ليس إلا خطوة نحو البقاء والاستقرار، وهم ينسون أن الكلمات الطيبة والابتسامات المصاحبة إن لم تتقاطع مع الرغبات وحبال التفكير فسينتهي مفعولها سريعاً، ويجهلون أن من يأتي للأمكنة المباشرة للأفراد من دون تسلح بخبرة عريضة ووعي كبير وقدرة مبهرة ليس إلا كمن يدخل في معركة شرسة المكسب الوحيد فيها أن يخف وزنك وتكثر مخاوفك ويتقلص عمر الحياة والنشاط، وربما تتقلص معها قناعات الآخرين، تلك القناعات التي يمكن أن تتبدل في ظل أن زاوية الرؤية من مؤخرة القطار ليست كزاوية الرؤية من مقعد في الأمام.
أودع كرسي المدير العام على عجل، لأنه كالقهوة بالضبط، جمالها أن تحتسى وتشرب على مهل، ولا بد أن يتم تأملها وتسبح في النفس والذكريات.
نقلاً عن صحيفة «الحياة «