كل مسؤول في البلد، وفي أي قطاع كان، من المخولين بالتصريحات الرسمية على الملأ، ستجد له على الأقل تصريحاً واحداً يذكر فيه مصطلح «الشفافية»، وأن قطاعه يعمل بشفافية، أو أن التعامل مع هذه القضية أو تلك سيتم بشفافية، أو أن الإجراءات المتبعة والسياسات المطبقة تتم بصورة شفافة تامة.

الشفافية، وهي في معناها الأصيل، تعني التعامل مع الأمور بأعلى درجات الصدق، وهو ما ينسحب على عملية التحدث عنها أو التصريح بها، بمعنى أنه لا يوجد شيء يتم إخفاؤه على المجتمع، ولا حتى أجزاء صغيرة منه.

لذا دائماً ما يقال في علم الإدارة، بأنه حينما يتم إيراد مصطلح الشفافية فإن مورده -أي المسؤول- لابد وأن يلتزم بأعلى مستويات الشفافية والحديث المفتوح والصادق تماماً في مضامينه.

اليوم وللأسف، حينما ترصد التصريحات العديدة للمسؤولين، ستجد من بينها تصريحات يخيل لك أنك قرأتها في زمن سابق، وهذا أمر صحيح، فبعض التصريحات يعاد تدويرها ويتم استهلاكها، سواء أكانت متعلقة بمشاريع أخذت مساحة زمنية أكبر من المدى المحدد لها، أو إن كانت تصريحات معنية بالتعامل مع قضية ما، شهد الماضي وقوع أمثلة مشابهة لها.

لكن الغريب في عملية التكرار هذه، وجود جوانب عديدة في مضامين التصريحات يسودها الغموض، وهو أمر ينقسم لوجهين، الأول إما يكون غير مقصود عبر إيراد ملامح عامة عن القضية المتحدث فيها، وهو أمر منطقي إن كانت المسألة لا تزال غير مكتملة الأركان والجوانب، أو تكون مقصودة عبر إخفاء جزئيات لا يراد لها أن تصل للعامة، أو فرض «الضبابية» على جوانب كشفها قد يسبب لغطاً في المجتمع.

الشفافية حينما تورد، لا يكون موردها بهدف تقديم شعار جميل عبر مصطلح يرتاح له الناس ويبعث لديهم الراحة، ولو كانت مؤقتة، بل حينما تورد لابد من الالتزام الكامل بهذا المبدأ. هو لم يكن أبداً مبدأً أو شعاراً «تجميلياً» فقط يستخدم كمحسن لفظي أو كلمة فيها جزالة لفظ أو رنين سمعي محبب، بل هو مصطلح معني أكثر بالتطبيق والممارسة، والخلوص لنتائج تعكس مضمونه.

أكثر ما يزعج الناس اليوم بشأن أي قضية كانت، صغيرة أو كبيرة، هو عدم الالتزام التام بالشفافية، ووجود غموض يكتنف التفاصيل، وهو الأمر الذي يقود إلى اللغط المجتمعي، وإلى التأويل والافتراضات وحتى الجنوح لممارسات غير لائقة فيما يتعلق بالتعبير وإبداء الرأي، بتحولها من انتقادات في نطاق الانتقاد المحمود، إلى تطاول وشتم وتشهير وإساءات وغيرها من ممارسات سيئة.

حينما تغيب الشفافية تحدث الفوضى العارمة، والسبب سيعود في النهاية إلى من كانت بيده القدرة على التعامل بشفافية ولم يلتزم بها بحذافيرها.

من حق المجتمع اليوم أن يتساءل، وأن يمطر الجهات الرسمية بتساؤلات لا تتوقف، طالما أنها معنية بقضايا تمس المواطن وواقعه، ومن واجب المعنيين الإجابة عليها بصراحة ووضوح، أقلها لضمان المصداقية مع الناس وعدم العبث بروابط الثقة التي ستهتز لا محالة حينما يدرك الناس أنك لا تتعامل معهم بصدق.

لدينا شعارات ومثاليات عديدة في مجتمعنا، هناك أسس رائعة ترسخ عليها المشروع الإصلاحي بهدف أن يؤسس لممارسات وأخلاقيات راقية، لكن للأسف بعض أساليب التعامل تضرب هذه الأسس في مقتل، فبات المواطن بالتالي يشك في كل شيء، لا يصدق أي تصريح بسهولة، وحتى حينما تعد الدولة باتخاذ إجراءات معينة تجد القلق لدى كثيرين، باعتبار أن هناك تجارب سابقة كان يفترض أن تسفر عن تصحيح للمسارات ومحاسبة للأخطاء ولكن لم يحصل ذلك.

الشفافية مطلوبة في مجتمع المؤسسات والقانون، المجتمع جزء من صناعة القرار، وعليه يجب أن يتشارك في المعلومة، وأن يعرف تفاصيل القضايا التي تمسه بشكل مباشر. المواطن يريد من يصارحه ويتحدث معه على أساس الثقة، وعلى العكس يكون رد فعله عنيفا، وكسب ثقته أمراً مستحيلاً إن كان التعامل معه بعيداً جداً عن الشفافية.