مازلت أتذكر المحادثة الهاتفية التي تمت بيني وبين أستاذي ومعلمي المرحوم الأستاذ محمد البنكي، مؤسس صحيفة «الوطن»، وأول رئيس للتحرير، قبل أكثر من عقد، وهو يخبرني بأن أكون جاهزاً لإجراء مقابلة مهمة مع الرئيس السوداني الأسبق، المشير عبدالرحمن سوار الذهب، على هامش زيارته للبحرين، وكانت الدعوة موجهة إلى المرحوم الأستاذ البنكي، لكنه اعتذر، ورشحني بدلاً منه لإجراء المقابلة، وقد سعدت كثيراً، كوني اعتبرت الأمر في ذلك الوقت، تشجيعاً من أستاذ جليل، ورئيس تحرير، بحجم وقامة البنكي، لمحرر يبدأ مشواره الصحافي، وثقة كبيرة في قدراتي، كونه أكد للجهة المستضيفة للرئيس السوداني الأسبق، أنني بدلاً منه، وأكد لهم قدرتي على إجراء الحوار وأن يخرج بالصورة التي يرضى عنها الجميع.
وبالفعل كنت مترقباً لهذا اللقاء وهذا الحوار، ولا أنكر شعوري بالخوف الممزوج ببعض القلق، حتى قابلت المشير سوار الذهب في مقر إقامته بأحد الفنادق في البحرين، في الموعد المحدد. كثيراً ما قرأت سيرة هذا الرجل، وكنت في كل مرة أقرؤها أبدي دهشتي، هل هذا الرجل عربي مثلنا؟ هل هذا الرجل جيناته الوراثية التي يحملها هي جينات وراثية لإنسان عربي؟ ما نوعية الحمض النووي الذي يملكه سوار الذهب؟
أتذكر أول سؤال وجهته إلى الرئيس السوداني الأسبق: كيف تنازلت عن السلطة طواعية؟ وما شعورك وقتها؟ وكيف أقدمت على تلك الخطوة الصعبة؟ وكيف كنت زاهداً في السلطة؟ ابتسم الرجل ابتسامة خفيفة، ورد على سؤالي بإجابة بسيطة وبعبارة قصيرة: «من أجل السودان»، قبل أن يبدأ في سرد أسرار، ويسبر أغوار جزء مهم من حياته، ويتناول أحداثاً بعضها نشر والآخر لم ينشر، واحتراماً لوعدي له، لم أنشر كثيراً من تلك الأسرار في حياته، ولن أنشرها بعد رحيله، لكن بالتأكيد بعد مصافحتي لهذا الرجل وأنا أغادر مقر إقامته إثر انتهاء المقابلة الصحافية، احترمته أكثر وأكثر، وكم تمنيت أن يكون بين العرب والمسلمين آلاف من سوار الذهب، وكيف سيكون وضعنا إذا كان بيننا عشرات ومئات في زهد وحكمة سوار الذهب؟
ولمن لا يعرف من هو سوار الذهب، هو المشير عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب، من مواليد مدينة الأبيض في السودان عام 1935 والرئيس السابق للجمهورية السودانية، ورئيس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية، استلم السلطة أثناء انتفاضة أبريل 1985 بصفته أعلى قادة الجيش بالتنسيق مع قادة الانتفاضة من أحزاب ونقابات ثم قام بتسليم السلطة للحكومة المنتخبة بعد عام تقريباً. توفي مساء الخميس الماضي، 18 أكتوبر 2018، في العاصمة السعودية الرياض، عن عمر يناهز 83 عاماً. وقد أمر خادم الحرمين الشريفين العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، «بتنفيذ وصية الرئيس السوداني الأسبق، حيث تم نقل جثمان سوار الذهب بطائرة خاصة إلى المدينة المنورة ليوارى الثرى في مقابر البقيع تنفيذاً لوصيته، ليصبح أول رئيس سوداني يوارى الثرى خارج بلاده». وقد بعث خادم الحرمين الشريفين «برقيتي عزاء ومواساة للرئيس السوداني، عمر البشير، في وفاة المشير عبدالرحمن سوار الذهب ولعائلة الفقيد وذويه». ويوصف الفقيد الراحل بأنه الزعيم العربي الوحيد الذي تنازل طوعاً عن السلطة، بعدما تولى منصب الرئيس السوداني الخامس من 6 أبريل 1985 حتى 6 مايو 1986.
ولد سوار الذهب في مدينة الأبيض عام 1935، وتخرج من الكلية الحربية عام 1956، وتدرج في السلك العسكري. وفي عام 1971 وأثناء انقلاب العسكري السوداني الرائد، هاشم العطا، رفض تسليم حامية مدينة الأبيض العسكرية عندما كان قائداً لها، حتى استعاد الرئيس جعفر نميري مقاليد الحكم بعد أيام قليلة. ورغم هذا الموقف فقد أُبعد تعسفياً عن السودان إلى قطر حيث عمل هناك مستشاراً عسكرياً للشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وقد كان أول من فصل الجيش عن الشرطة في قطر وأسس كيانين مستقلين هما شرطة قطر والقوات المسلحة القطرية. وبعد أن غيرت القيادة السودانية موقفها منه عاد إلى البلاد ليتولى منصب رئيس الأركان ووزير الدفاع. وفي أعقاب انتفاضة أبريل 1985 التي أطاحت بحكم الرئيس جعفر نميري تولى سوار الذهب رئاسة المجلس العسكري الانتقالي ورقي لرتبة المشير. وقد تعهد بعد تسلمه السلطة بأن يتخلى عنها خلال عام واحد لحكومة منتخبة. وبالفعل بعد عام قام بتسليم السلطة للحكومة الجديدة المنتخبة برئاسة رئيس الوزراء وقتها، الصادق المهدي، ليتنازل عنها طواعية ويصبح أول رئيس وزعيم عربي يتنازل طوعاً عن السلطة، في سابقة لم تحدث من قبل.
وعقب ذلك اعتزل العمل السياسي، وترأس منظمة الدعوة الإسلامية التي اتخذت من السودان مقراً لها، ومن إنجازات تلك المؤسسة بناؤها العديد من المدارس والمستشفيات والعيادات وملاجئ الأيتام.
وفي عام 2004 فاز سوار الذهب بجائزة الملك فيصل السنوية المخصصة لمن قدم خدمات جليلة للدين الإسلامي، اختير بين 13 شخصية إسلامية عامة رشحت للجائزة في ذلك العام، وقد تم اختياره آنذاك «بناء على العمل النبيل الذي كان محل افتخار للعالمين الإسلامي والعربي».
قدم بحوثاً في مؤتمرات كثيرة عن الإسلام والدعوة إليه، والتحديات التي تواجهه، على كافة المستويات، المحلية والإقليمية والدولية، وكان الفقيد الراحل عضواً في 11 مؤسسة إسلامية وعالمية. في الوقت ذاته، يعد الفقيد الراحل، من أبرز الشخصيات الإسلامية ذات الشهرة العالمية، وحظي بتقدير عالٍ لمصداقيته في التخلي طواعية عن الحكم برّاً بوعده، إضافة إلى ما قام به من جهود في خدمة الإسلام والمسلمين.
* وقفة:
رحم الله المشير عبدالرحمن سوار الذهب وأثابه الله خير الجزاء على ما قدم للإسلام وللمسلمين ولبلاده السودان.. وكم نتمنى أن يكون بيننا عشرات من أمثال سوار الذهب في إخلاصه وزهده في السلطة وحبه لبلاده!!
{{ article.visit_count }}
وبالفعل كنت مترقباً لهذا اللقاء وهذا الحوار، ولا أنكر شعوري بالخوف الممزوج ببعض القلق، حتى قابلت المشير سوار الذهب في مقر إقامته بأحد الفنادق في البحرين، في الموعد المحدد. كثيراً ما قرأت سيرة هذا الرجل، وكنت في كل مرة أقرؤها أبدي دهشتي، هل هذا الرجل عربي مثلنا؟ هل هذا الرجل جيناته الوراثية التي يحملها هي جينات وراثية لإنسان عربي؟ ما نوعية الحمض النووي الذي يملكه سوار الذهب؟
أتذكر أول سؤال وجهته إلى الرئيس السوداني الأسبق: كيف تنازلت عن السلطة طواعية؟ وما شعورك وقتها؟ وكيف أقدمت على تلك الخطوة الصعبة؟ وكيف كنت زاهداً في السلطة؟ ابتسم الرجل ابتسامة خفيفة، ورد على سؤالي بإجابة بسيطة وبعبارة قصيرة: «من أجل السودان»، قبل أن يبدأ في سرد أسرار، ويسبر أغوار جزء مهم من حياته، ويتناول أحداثاً بعضها نشر والآخر لم ينشر، واحتراماً لوعدي له، لم أنشر كثيراً من تلك الأسرار في حياته، ولن أنشرها بعد رحيله، لكن بالتأكيد بعد مصافحتي لهذا الرجل وأنا أغادر مقر إقامته إثر انتهاء المقابلة الصحافية، احترمته أكثر وأكثر، وكم تمنيت أن يكون بين العرب والمسلمين آلاف من سوار الذهب، وكيف سيكون وضعنا إذا كان بيننا عشرات ومئات في زهد وحكمة سوار الذهب؟
ولمن لا يعرف من هو سوار الذهب، هو المشير عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب، من مواليد مدينة الأبيض في السودان عام 1935 والرئيس السابق للجمهورية السودانية، ورئيس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية، استلم السلطة أثناء انتفاضة أبريل 1985 بصفته أعلى قادة الجيش بالتنسيق مع قادة الانتفاضة من أحزاب ونقابات ثم قام بتسليم السلطة للحكومة المنتخبة بعد عام تقريباً. توفي مساء الخميس الماضي، 18 أكتوبر 2018، في العاصمة السعودية الرياض، عن عمر يناهز 83 عاماً. وقد أمر خادم الحرمين الشريفين العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، «بتنفيذ وصية الرئيس السوداني الأسبق، حيث تم نقل جثمان سوار الذهب بطائرة خاصة إلى المدينة المنورة ليوارى الثرى في مقابر البقيع تنفيذاً لوصيته، ليصبح أول رئيس سوداني يوارى الثرى خارج بلاده». وقد بعث خادم الحرمين الشريفين «برقيتي عزاء ومواساة للرئيس السوداني، عمر البشير، في وفاة المشير عبدالرحمن سوار الذهب ولعائلة الفقيد وذويه». ويوصف الفقيد الراحل بأنه الزعيم العربي الوحيد الذي تنازل طوعاً عن السلطة، بعدما تولى منصب الرئيس السوداني الخامس من 6 أبريل 1985 حتى 6 مايو 1986.
ولد سوار الذهب في مدينة الأبيض عام 1935، وتخرج من الكلية الحربية عام 1956، وتدرج في السلك العسكري. وفي عام 1971 وأثناء انقلاب العسكري السوداني الرائد، هاشم العطا، رفض تسليم حامية مدينة الأبيض العسكرية عندما كان قائداً لها، حتى استعاد الرئيس جعفر نميري مقاليد الحكم بعد أيام قليلة. ورغم هذا الموقف فقد أُبعد تعسفياً عن السودان إلى قطر حيث عمل هناك مستشاراً عسكرياً للشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وقد كان أول من فصل الجيش عن الشرطة في قطر وأسس كيانين مستقلين هما شرطة قطر والقوات المسلحة القطرية. وبعد أن غيرت القيادة السودانية موقفها منه عاد إلى البلاد ليتولى منصب رئيس الأركان ووزير الدفاع. وفي أعقاب انتفاضة أبريل 1985 التي أطاحت بحكم الرئيس جعفر نميري تولى سوار الذهب رئاسة المجلس العسكري الانتقالي ورقي لرتبة المشير. وقد تعهد بعد تسلمه السلطة بأن يتخلى عنها خلال عام واحد لحكومة منتخبة. وبالفعل بعد عام قام بتسليم السلطة للحكومة الجديدة المنتخبة برئاسة رئيس الوزراء وقتها، الصادق المهدي، ليتنازل عنها طواعية ويصبح أول رئيس وزعيم عربي يتنازل طوعاً عن السلطة، في سابقة لم تحدث من قبل.
وعقب ذلك اعتزل العمل السياسي، وترأس منظمة الدعوة الإسلامية التي اتخذت من السودان مقراً لها، ومن إنجازات تلك المؤسسة بناؤها العديد من المدارس والمستشفيات والعيادات وملاجئ الأيتام.
وفي عام 2004 فاز سوار الذهب بجائزة الملك فيصل السنوية المخصصة لمن قدم خدمات جليلة للدين الإسلامي، اختير بين 13 شخصية إسلامية عامة رشحت للجائزة في ذلك العام، وقد تم اختياره آنذاك «بناء على العمل النبيل الذي كان محل افتخار للعالمين الإسلامي والعربي».
قدم بحوثاً في مؤتمرات كثيرة عن الإسلام والدعوة إليه، والتحديات التي تواجهه، على كافة المستويات، المحلية والإقليمية والدولية، وكان الفقيد الراحل عضواً في 11 مؤسسة إسلامية وعالمية. في الوقت ذاته، يعد الفقيد الراحل، من أبرز الشخصيات الإسلامية ذات الشهرة العالمية، وحظي بتقدير عالٍ لمصداقيته في التخلي طواعية عن الحكم برّاً بوعده، إضافة إلى ما قام به من جهود في خدمة الإسلام والمسلمين.
* وقفة:
رحم الله المشير عبدالرحمن سوار الذهب وأثابه الله خير الجزاء على ما قدم للإسلام وللمسلمين ولبلاده السودان.. وكم نتمنى أن يكون بيننا عشرات من أمثال سوار الذهب في إخلاصه وزهده في السلطة وحبه لبلاده!!