ظل الجسد مقدساً في الديانات الوثنية القديمة، قداسة بلغت حد عبادة الأعضاء في تلك الأديان. كما أن الآثار التي خلفتها تلك المعتقدات تبرهن على القيمة الرمزية لبعض أعضاء البشر مثل العين وكف اليد والرأس وغيرها... وتطورت النظرة المقدسة للجسد في الأديان السماوية بوصف الجسد وسيلة من وسائل التعبد والتقرب من الله عبر طقوس التعبد المتعددة كحركات الصلوات وترويض الجسد بالصيام والقيام والحج والرقص التعبيري عند المتصوفة وغيرهم. وقد نظرت الأديان السماوية إلى الجسد من زاوية أنه منحة إلهية يؤتمن عليها الإنسان حتى تعود إلى الله كما خلقها خِلقتها الأولى. وقد أثرت هذه النظرة إلى الجسد في الكثير من القضايا الحديثة التي شهدت تطويراً للنظرة التفسيرية لقداسة الجسد. ومن تلك القضايا قضية التبرع بالأعضاء أثناء الحياة وبعد الممات.
أثبت التطور العلمي الذي يصفه الكثيرون بأنه صار (مخيفاً)، أن اليد البشرية بإمكانها التدخل في كثير من المسائل التي كانت لا تخطر على قلب بشر. ومنها زرع عضو بشري في جسد إنسان آخر قد يختلف معه في الجنس والعمر والعرق وأحيانا الدين. فقد يلجأ مواطن عربي أو أمريكي ثري من عائلة مرموقة لزراعة كلية في دولة آسيوية من متبرع آسيوي فقير. وسيعش هذا الثري، ذو الأصول الجندرية رفيعة الطبقة، على كرم نسيج بشري آخر استضافه جسده حبا وكرامة. وبالتطور المذهل في مجال زراعة الأعضاء وتجاوز المخاطر الطبية الكبيرة التي كانت تحيط بإجراء هذا النوع الدقيق من العمليات، صار بإمكان الأهل والأقارب التبرع لبعضهم بيسر وسهولة ومخاطر تكاد لا تذكر.
وفي الغرب، وتحديداً أوروبا، تحولت عمليات التبرع بالأعضاء إلى ثقافة إنسانية، تعبر عن نظرة أخرى للجسد وللحياة وللآخر. فما قيمة الجسد إن هو دُفن أو حرق وترك نهباً لعوامل الطبيعة تحوله إلى ذرات لا شيء؟. ولماذا يعاني آلاف البشر من العطب الجسدي وعن حاجتهم لاستبدال بعض أعضاء جسدهم أو زراعة أخرى وبالإمكان تلبية احتياجاتهم الإنسانية ومنحهم فرصاً أفضل للحياة ؟!! تلك الثقافة ولدت في الغرب الوعي بتسجيل المرء اسمه في كشوف المتبرعين بالأعضاء بعد الوفاة في المراكز المخصصة لذلك، وكتابة وصية للأهل بهذا الشأن. وصارت إجراءات ما قبل الوفاة في بعض المستشفيات الغربية، تتبع بيانات مرضى الموت السريري للتأكد من تواجد أسمائهم في سجلات المتبرعين بأعضائهم بعد الوفاة.
هذه الثقافة الإنسانية العالية تستبعد أي اشتراط في عمليات التبرع بالأعضاء. فلا تقييد لهوية المتبرَّع له بجنس معين أو جنسية أو علاقة قرابة. ولا استحقاق مالياً يناله المتبرع نظير جسده. كل هذا لحماية الجانب الإنساني في هذه القضية من الانزلاق إلى عمليات التجارة بالأعضاء التي هي سبب رئيسي في كثير من جرائم القتل والخطف، وسبب مباشر لتواجد مافيا الأعضاء البشرية في مناطق الحروب والمجازر والكوارث الطبيعية والبشرية.
وفي الوطن العربي واجهت قضية التبرع بالأعضاء رفضاً دينياً واجتماعياً في بداياتها. ثم صارت تلك الآراء من الماضي الذي لا يذكر. وقد أسست كثير من الدول العربية مراكز للتبرع بالأعضاء البشرية بعد الوفاة. إلا أن الأمر مازال منوطاً بالثقافة (الذاتية) التي تكشف عن قناعة المرء نفسه عن علمه بهذه القضية من حيث الأساس، وعن وعيه بقيمة حياة الآخرين، وسعادة البشرية، وفناء الإنسان المحتوم الذي لا يترك للجسد مهابة أو قداسة أو أية قيمة تذكر.
وأمام هذا العدد الكبير في بلداننا من المحتاجين لزراعة الكلى والكبد والقرنيات وعضلات القلب وصماماته... كيف لا يتم بث الوعي وتشجيع الناس على التبرع بأعضائهم قبل الموت؟؟
تقول الفرضية العلمية في هذا الشأن : إن إمكانية استفادتك الشخصية من المتبرعين بالأعضاء هي أكبر بكثير من إمكانية استفادة الآخرين من أعضائك. لأن استلام أعضاء الجسد سليمة وقابلة للاستثمار البشري يستدعي حدوث الوفاة في ظروف طبية لا ينقطع فيها سيلان الأكسيجين والدم عن أعضاء الجسم وهذا في الغالب لا يتحقق إلا بالوفاة السريرية والغيبوبات الطويلة. أما الذين يمر على وفاتهم ساعات (قليلة) قبل الوصول إلى المستشفى فإن أعضاء جسدهم تصبح غير صالحة للزراعة أو إعادة الاستفادة منها في معالجة الآخرين.
فكر في هذا الأمر... وتدبر في قيمة الجسد بعد الموت.... فربما تحيا طويلا، حياةً جديدة، في جسد غيرك.