الحياة أصبحت مليئة بالتناقضات، أصبح الكاذب محل صدق، وأصبح المنافق مرغوباً وأصبح السارق محل ثقة وأصبح الفاسد هو المصلح، نشعر بأننا في زمن الصح فيه خطأ، والخطأ هو الصح، نحس بأننا ولدنا في زمان ومكان لا ننتمي له، من هول ما نشاهد من تناقضات ونفاق، وندرك حينها بأن الحياة ما عادت مثل السابق، وما عاد الناس الذين كنا نثق بهم وبأنهم أصحاب القيم الجميلة أصبحوا يتلونون بحسب المشهد وما يتطلبه من نفاق وتناقض. فقد أصبح للبعض وجهان، وجه ملائكي يغلبه الكلام المعسول والقيم النبيلة، ووجه آخر يظهر فيه الشر كشيطان يمشي على الأرض، يرتدي السواد في أفعاله وأقواله. نعيش في عصر التناقضات وأصبح المتناقضون يرتقون في العلاقات، في الوظائف، ويرجع الأمر كله إلى أنهم يقولون ما لا يفعلون، تماماً مثل الكاتب والفيلسوف الفرنسي، «جان جاك روسو»، هذا الكاتب الشهير في زمانه اشتهر بتأليف كتب عن تربية الأطفال، ومؤلفات عن أهمية الأسرة في المجتمع، وأخرى في القيم العائلية، إلا أنه لم يطبق حرفاً واحداً مما كان يكتب، ولم يمارسه في حياته الحقيقية، فما على الورق مجرد حبر، ليس له قيمة في حياته الفعلية، مجرد «شو»، استعرض الكاتب مهاراته في الكتابة وقدرته في التأثير على الآخرين، بمعنى أنه كان جملة من التناقضات في ثوب من النفاق الاجتماعي. هذا الفيلسوف والكاتب الذي ألف عن الطفل والأسرة تخلى عن أبنائه الخمسة لدار الأيتام ولم يبال بهم، هذا الأب الذي كتب عن الطفولة تخلى عن طفولة أبنائه معه، هذا الكاتب ألف كتباً عن أهمية الأسرة، هدم أسرته بيده وبهواه وشتتها، لأنه إنسان متناقض، إنسان غير حقيقي، ومنافق، ومصاب بداء العظمة والغرور الذي أبعد الجميع عنه.

يعيش على هذه الأرض مئات مثل جان جاك روسو، يعيش بيننا أشخاص متناقضون، يكرسون حياتهم لنشر القيم الجميلة ولكنهم لا يطبقونها، «أقوال فقط»، ربما يتبنون مشاريع كثيرة، ولكنهم يتركون أهم مشروع في حياتهم جانباً الأسرة والأبناء مثل صاحبنا الفيلسوف، ربما يحصدون جوائز في أعمالهم ولكن في حياتهم الحقيقية هم فاشلون في التواصل ولا تعكس هذه الجوائز وهذا التقدم في البناء الحقيقي لأنهم يعيشون خلف الكواليس، مثلهم مثل من يمثلون دور المصلحين في المجتمع الذين يكرسون حياتهم وجهدهم في إصلاح الآخرين ولكنهم يقفون ساكنين دون حراك في تخصيص مساحة بسيطة لإصلاح أحوالهم وعلاقتهم مع أقرب الناس إليهم. هؤلاء المتناقضون يستحقون جوائز في التناقص لأنهم مبتكرون لأساليب حياة جديدة يتقمصون فيها أدوار الشرف والقيم النبيلة هم بالفعل يستحقون الجوائز لأنهم مبدعون في ذلك.