يتفق الكثيرون أن تطور الحضارة الإنسانية ارتكز -بالإضافة للكتب السماوية- على كتب قليلة ساعدت في بناء وتطوير نظم الحكم والفكر السياسي ثم النهوض بالأمم. ونضيف أن كبار السياسيين غالباً ما تبنوا أفكاراً أكاديمية بحتة، فقد كان ولايزال مريحاً الانتقال من عالم الأكاديميا لعالم صنع السياسات وحل مشاكل العلاقات الدولية، ككتاب «الأمير» لنيكولو مكيافيلي، وهي دراسة في الفقه السياسي قيل إن هتلر وموسوليني اتخذوها كمرجع لسياساتهم، ثم أخذ لينين والسوفيت ماركس ونجحوا طوال سبعين عاماً في تبني ما كتب. مما دفع تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة 2000-2008 لتبني أفكار كتاب «صدام الحضارات» وإعادة تشكيل النظام العالمي لهنتنجتون 1996، وفيه أن المسارين الحضاريين الإسلامي والكونفوشي يشكلان التحدي الأكبر للحضارة الغربي. ثم كتاب نهاية التاريخ لفوكوياما الذي طالب هو بنفسه المحافظين الجدد بإزالة الديكتاتوريات كنظام صدام والقذافي وطالبان. لذا تغيرت حياة الناس في الشرق الأوسط جراء القيام بعمل يحقق ما طرح فيها.

وليس من باب التفاخر الاستعلائي الأجوف القول إن الحواضر العربية تعيش مرحلة تسليم الراية للخليج المرتبط بتراجع أدوار القوى العربية التقليدية لتداعيات عدة، حيث تصدرت دول الخليج منذ مطلع القرن الـ21 واجهة الفعل السياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي والدبلوماسي في المشهد العربي. وفي تقديرنا أن هذا التحول في عالمنا العربي لم يكن إلا بناء على دراسات وأبحاث وكتبت تنبأت وشجعت مثل هذا التحول، ومنها كتاب الخليج ليس نفطاً 1983 للمفكر الكويتي د.محمد الرميحي، الذي عني بقضايا جذرية مطلوب تحقيقها لتطور مجتمعات الخليج، وفيه أن الخليجيين يعتبرون الثروات الطبيعية ليست ملكاً للخليجيين فحسب بل للعرب أيضاً، لذا بنى الكثير من الشباب العربي مستقبلهم من نقاط بداية ما في الخليج، كما حرض الكتاب بحدة على التنمية واقتناص الفرصة النفطية لبناء قاعدة إنتاجية مستدامة أساسها تنمية الإنسان، ورأس المال البشري، أما الكتاب الثاني فهو كتاب وصف بأنه إشكالي بامتياز يحفز للتساؤل لفهم الخليج وهو لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر تأليف د.عبدالخالق عبدالله 2018. وقد تضمن ثلاث أفكار رئيسة تشير إلى أن هناك خليجاًُ جديداً تشكل في الخمسين عاماً الماضية، كما يشير إلى أن الجزء الخليجي حالياً أكثر تأثيراً في الكل العربي من تأثير الكل العربي في الجزء الخليجي، بل إن 6 دول خليجية هي أكثر تأثيراً من 16 عربية. وآخر الأفكار أن الخليج صار مركز الثقل العربي بكل أبعاده. كما تم رسم معايير الحياة المطلوبة، والتي تنمو فيه مواهب شابة، فيصبح أهل الخليج أفضل صحة وأطول عمراً وأكثر دخلاً ورفاهية واستقراراً بنظام سياسي متجذر في عمق التاريخ الخليجي، يتمتع بشرعية بيئة أهله.

* بالعجمي الفصيح:

وضوح الرؤية ودقة أفكار كتابي الرميحي وعبدالخالق، يعطيانهما حق ادعاء محفز اللحظة التأسيسية لخليج القرن الـ21. فطالبا بأكاديمية رزينة قيام الخليج بتسلم الراية من الحواضر العربية، وفي الجزء الثاني من هذا المقال سنعرض لباحث عربي معروف ما يؤهل الخليج أن يكون ضمن الفاعلين في القرن الـ21، وفي انتظار مزيد من كتب مفكرين لا نراهم أداة دعائية للسلطة بل مستشرفين للمستقبل.

* كاتب وأكاديمي كويتي