إن الحديث عن الصحة النفسية ذو شجون، وما أن تفتح له باباً تجد بقية الأبواب تنفتح في سياقه واحدة تلو الأخرى، وكنا قد أشرنا في وقت سابق كيف أن حياتك من صنع أفكارك، وكيف أنك قادر على أن تدير برمجتها لصالحك، كونها تشكل الدعامة الأساسية لصناعة ذوقك واختياراتك وقراراتك في الحياة. صحيح أن إدارة التفكير عملية يمكننا أن نمسك بزمامها ونديرها للوجهة التي نريد، ولكن الأمر ليس بتلك البساطة التي يصورها لنا المدربون برأيي، فهناك كثير من العوامل المتشابكة التي تتدخل في عملية إدارة الأفكار وتوجيهها. لا يختلف اثنان على أهمية وحساسية مرحلة الطفولة في صناعة أفكارنا وثقافتنا ومعتقداتنا حول الحياة، بل وكيف أن من خلالها تتشكل طريقة فهمنا للأشياء وللأشخاص من حولنا، ولا شك أن ذلك لا يأتي تلقائياً بل من خلال جملة من التجارب التي نمر بها أو يمر بها آخرون أمامنا، غير أن الأهم من هذا وذاك، هو التربية التي نتلقاها في بيوتنا، وكيف أن مفاهيم الأهل أو أساليبهم في التربية، أو طريقتهم الانتقائية للمفردات والأفكار والمعتقدات في الحياة، كلها تسهم في تحديد ملامح شخصياتنا وتركيبتنا الفكرية والاجتماعية والثقافية، والتي كلها تدار بالأساس عبر عملية الأفكار ضمن إطار صحتنا النفسية.

نلتقي بعض الأفراد في حياتنا محملين برؤى مغلوطة عن بعض الأمور، أو بتصنيفات مجحفة للبشر، أو بنظرة خاصة لتفسير سلوك معين أو ممارسة اجتماعية ما، فسرعان ما نصمهم بالمرضى النفسيين أو بالمعقدين أو بالانطوائيين، وكثير من الوصمات الأخرى لن أخوض فيها اليوم، ولكني متأكدة أن ثمة أفراداً خطروا على أذهانكم وأنتم تقرؤون هذه الكلمات، وثمة أوصاف أطلقتموها عليهم راودت ذاكرتكم هذه اللحظة. نظن أنهم مرضى أو منعزلون أو لنقل أنهم مختلفون أياً كان ذلك الاختلاف، ولكن الأمر في حقيقته لا ينم عن خلل في هؤلاء الأفراد ولا في اختلاف في تركيبتهم النفسية الفطرية، بل الحقيقة كامنة في طريقة البرمجة العصبية التي أخضعوا لها عندما كانوا أطفالاً أو في مراحل محددة هامة وخاصة وحساسة في حياتهم أفضت إلى إكسابهم تلك الصفات بناءً على معطيات معينة صاغت أفكارهم. ينطبق ذلك على من يتلقون صدمات قاسية في حياتهم، كخيانة زوج أو صديق، أو التعرض للعنف الجسدي أو اللفظي، أو أي شكل من الصدمات والضغوطات النفسية التي تقود في بعض الأحيان إلى تكون عقدة ما في حياة الفرد منا، أو تغير مفاهيم معينة في نفسه، ليجد نفسه أن فطرته السليمة لم تكن كافية لحمايته من ذلك، ما يضطره من خلال المعطيات الجديدة وما بعثه الكون إليه من أفكار إلى أن يبحث عن سبل لا إرادية للدفاع عن نفسه ما يحوله إلى إنسان انطوائي أو عدواني أو أي شيء آخر.

* اختلاج النبض:

موضوع الصحة النفسية شائك جداً، ويستحق أن يلقى الضوء عليه من باب التشجيع على العلاج النفسي كما هو العلاج في أي تخصص طبي آخر، فضلاً عن ذلك، فإنه من الضرورة بمكان التركيز على القيم التربوية لدى الوالدين أو الراشدين وكيفية تعاملهم مع الأطفال بشأن صياغة أفكارهم على نحو واعٍ وسليم لخدمة مصالحهم المستقبلية، بل ولحمايتهم من كل الصدمات التي من الوارد التعرض لها.