الظروف القاهرة والاستثنائية والتي تحصل بسبب الأزمات أو الأوضاع غير الطبيعية تفرض بالضرورة أنماط تعامل غير اعتيادية أو جديدة من نوعها.

ما أتحدث عنه هنا هو ما يعرف بأنه «تغيير النمط المعيشي»، بحيث يفرض عليك أن تعيش حياتك بطرق غير معتادة، أي لم تكن ضمن «الروتين» الدائم، وهو النمط الذي تفضله.

اليوم فرضت الإجراءات الاحترازية والوقائية بسبب فيروس «كورونا» على الناس التعايش مع «انقلاب» في أنماط ممارستهم لحياتهم، فرضت عليهم «عزلة» قسرية، باتت هي أحد الحلول المؤثرة لتجنب تزايد الأعداد، عوضاً عن إجراءات تمثل بالنسبة إلى الإنسان في أوضاعه الطبيعية «قيوداً» على حريته وتصرفاته وسلوكاته.

كم مضى علينا الآن؟ ثلاثة شهور وأكثر من الإعلان عن ظهور الفيروس! أو شهران من تطبيق الإجراءات التي تهدف للحفاظ على أمن المجتمعات وسلامة الشعوب! هي أيام متواصلة محسوبة في رحلة «كورونا، وأسابيع متواصلة من العزلة».

فيروس «كورونا» ضرب البشرية في أعز سماتها وأهم صفاتها، ضرب البشر في نزعتهم «الاجتماعية»، في تواصلهم ككائنات عاقلة ناطقة تمثل لها عملية «التواصل» حاجة أساسية كالحاجة إلى الطعام والماء والهواء، مع التحفظ على مستوى المقارنة.

لكن للدلالة على ما نقول، وبيان أهمية ما أثبتته النظريات الإنسانية بشأن التواصل البشري، وحياة المجتمعات العادية، نجد أن حملات التوعية ورسائل النصح والإرشاد، وكذلك الإجراءات كلها تركز في هذا الأمر، أي حث الناس على ضرورة منازعة «الروتين المتأصل» المعني بنزعتهم الاجتماعية، عبر البقاء في البيوت، وتجنب التجمعات، والحذر من مخالطة الآخرين، وهذه الدعوات مستمرة ومتزايدة ولن تتوقف لأن المطلوب الالتزام بسلوكات جديدة هي غير طبيعية وغير متأصلة في طباع البشر، ولأن كثيراً من الناس رغم هذا الإلحاح التوعوي مازالوا يتعاملون مع الوضع بطريقة «الهرب»، أي تحين الفرص لاستعادة أي نوع من أنماط حياتهم العادية سابقاً، وكأنهم يدخلون تحدياً لخداع الفيروس، ومناورته والالتفاف عليه.

نحن في عزلة جزئية حالياً، عبر اقتصار أنشطتنا وممارساتنا على الأمور الملحة والضرورية، نحن في وضع يفرض علينا «التعايش» مع هذا الفيروس، أو بالأحرى التعايش مع الظروف المحيطة التي سببها لنا من خلال الإجراءات المتخذة.

لا أريد أن أكون شخصاً آخر يخرج على الناس ليكرر «إسطوانة نصائحية» صدح بها كثيرون قبلي، بشأن الأساليب والطرق التي ينبغي على البشر اتباعها لقضاء أوقاتهم في عزلتهم ببيوتهم، وماذا عليهم القيام به من أنشطة وخلافها، لكنني أقول إن الحاصل اليوم يمثل مادة غنية لملاحظة سلوكات البشر في كيفية التعايش مع أجواء هذه الجائحة، وما يمكن أن تسفر عنه من إبداعات لدى بعض البشر، أو أفكار وأعمال خلاقة، ولربما بعضها غريب وجنوني.

خلاصة القول أننا في زمن يفرض علينا التعايش مع فيروس يهدد صحتنا، علينا التعايش مع أجواء «قلبت» أنماط حياتنا، علينا التأقلم مع ظروف تجعلنا نعيد النظر في سلوكات ونمط معيشة لم تكن أبداً ضمن أفعالنا الطبيعية أو «الروتين» الذي تعودنا عليه.

فيروس جعلنا ننسى كثيراً من خططنا المستقبلية وأمانينا ومشاريعنا، وجعلنا فقط نطلب من الله أن يعيد لنا حياتنا السابقة قبل بضعة شهور كما كانت.