من الطبيعي في ظل التحول الذي مسّ جميع جوانب الحياة، أن تحدث اهتزازات وتبدلات في الرؤى الفكرية والثقافية والفنية. فمفهوم الثقافة في حد ذاته آخذ في التغيّر، وفي بلورة رؤية جديدة تختلف عما عهدناه في القرن العشرين. فالوسائط الأدبية تغيّرت بحكم ارتباطها بالعصر وتحولاته التكنولوجية والاتصالية. ومفهوم الشعر على سبيل المثال يعاد النظر فيه بشكل مضطرد. والشاعر بالمعنى القديم يودّع أفق التجربة، كي يأخذ شكلاً أو أشكالاً جديدة.

فإذا نظرنا للشأن الثقافي بالمقياس الذي كان سائداً، فإننا سنتحدث بالضرورة عن هذا الانحسار المشهود، لأننا لا نجد الموضوع الذي نبحث عنه ضمن ذلك المنظور السابق في مختلف أوجه الإبداع. ومن ذلك دور الكتاب في تأسيس الثقافة: ففي القرن المنصرم على الأقل، قام مفهوم الثقافة على قاعدة الكتاب. فالانطلاق من حيّز الأميّة الأبجدية إلى حيّز الكتاب في حد ذاته، كان واحداً من أسس الثقافة العربية في عصر النهضة، ولذلك ارتبطت الثقافة بالتعليم وبالقراءة والكتابة، وبسلطة الكتاب بوجه عام.. وساد هذا المفهوم ما يقارب قرن من الزمان على الأقل. فانبنى جيل ثقافة الكتاب على إدراك الثقافة في أجناسها المحددة وقنواتها المألوفة. ولذلك عندما نتحدث عن الشعر مثلاً، علينا أن نحصي أعداد الدواوين المنشورة وأسماء الشعراء «المعتمدين نقدياً»، ولكي نتحدث عن القصة والرواية علينا أن نحصي القصص والروايات وأعداد القصاصين والروائيين. ولكن إذا حاولنا أن نتلمس الواقع الثقافي وما أصابه من تشظٍ انطلاقاً من حيز الأجناس الأدبية المحدودة، فإننا سنجد المبدع الأدبي العربي قد تبخر في خضم هذه التشظيات الإبداعية التي عمّت المرحلة الأخيرة من القرن الماضي والعقدين الأخيرين من القرن الحالي.

والمشكلة أننا مازلنا نبحث عن هؤلاء داخل قوالب ومفاهيم وأسس ثقافة تغيّرت. فإذا نظرنا إلى المسألة على صعيد الشعر مثلاً، فإننا لا نكاد نظفر على نص شعري جديد يشدنا من خارج السياقات المعتادة، إلا باستثناءات محدودة. فقد انفتح النص الشعري على جميع الفضاءات والأجناس الأدبية، ثم تشظّى في جمل شعرية في عدد كبير من الفنون الأخرى المحايثة له، كاللوحة التشكيلية والخط العربي والرواية والقصة، وحتى النقد الأدبي فقد تغير جذرياً. وإذن فإن ما بقي من الشعر الذي نتحدث عنه كثيراً إلا القليل القليل. إننا إزاء صفحة جديدة في كتاب الزمن.!

* همس:

في الحلم

تجيء كل ليلة

فراشة من حرير

تحمل رسائلها،

في غبار المسافة.

وفي الصباح،

أقرأ خطوط الكف:

«في آخر الزمان،

ليلٌ طويل وأفجار،

وبُركانٌ من جليد

ورحيل ألا ينتهي».