أيمن شكل – «تصوير نايف صالح»
الوحيد في البحرين الحاصل على دكتوراه في الآثار
إذا تحدثنا عن التعايش فنحن مؤسسوه قبل 5 آلاف سنة
أسست 4 فرق تنقيب بحرينية من الشباب ونقلت إليهم خبراتي
لن يترجم آثار الوطن إلا أبناؤه ولا بد من تهيئة كوادر وطنية
نشأ في حقبة ما قبل الماء والكهرباء، وشاهد في نساء الفريج دوراً إعلامياً واستقصائياً وأمنياً، وقوة وقدرة على أداء مهام مستحيلة بمفهوم هذا العصر، كما قضى بعضاً من طفولته في بيع الباجلا والفول والحلوى وكان عامل شاي وقهوة في المملكة العربية السعودية.
ومن خلال تنقيب فكري لتاريخه، سرد أستاذ الآثار الدكتور عبدالعزيز صويلح لـ«الوطن» كفاحه في العمل منذ نعومة أظفاره وقصته مع الآثار، ولم ينس دور الشيخة هيا آل خليفة في نحت تلك المسيرة وكتابة نصوص مسمارية ظلت عالقة في ذهنه حيث أكد أن 90% من الآثار المخزنة في المتحف الوطني كانت من اكتشافات مجموعة الأربعة التي ضمت الشيخة هيا والتي قدمت خدمة كبيرة للبحرين في اكتشاف الآثار.
وأكد أن من الحوادث الكبيرة التي حصلت خلال طفولته، حريق كبير في بداية الستينات دمر مجموعة هائلة من البيوت البرستة المبنية من السعف واعتقد الأهالي آنذاك بأنها من فعل فاعل، ما أدى إلى هجرة بعض أهالي المنطقة مثل عائلة فلامرزي إلى منطقة البسيتين. وفيما يأتي اللقاء:
ما هو أول مكان ظهر فيه أثر عبدالعزيز صويلح؟
- أنا من مواليد فريج علي راشد فخرو بالمحرق والقريب من مجلس بن هندي وهي المنطقة التي سكنها جدودي، وكانت العلاقات الاجتماعية بسيطة وأهلية في توصيفها، فتجد بيوت الختاي والمسيفر والطهمازي والمناعي ونبهان وزيمان وغيرهم مرتبطة بعلاقات نسب.
وتميز سكان المحرق بالطيبة والاجتماعية حتى مع الغريب فقد كان العمانيون يسكنون في منطقتنا وربطتنا بهم علاقة أهل وصداقة، وكانت الفرجان مناطق يعرف سكانها بعضهم البعض ولا يجرؤ غريب أن يدخل فيها أو يمر من بينها إلا ويقابله الشباب ويسألونه عن سبب تواجده ومن يريد في المنطقة.
كيف كان حال المرأة في هذا العصر متقارب البيوت والعوائل؟
- تميزت المرأة في هذه الحقبة بدور اجتماعي فريد من نوعه، في تولي حماية بيئتها وتبادل المعلومات والبحث والتحري واتخاذ القرارات، فعندما يذهب الرجال إلى أعمالهم في الصباح، يتركون البيوت وهم مطمئنون فـ«المجتمع الفريجي» يتولى مهام الحماية والحراسة والصحة والصحافة والبحث والتحري واتخاذ قرارات مهمة، فكانت النساء يجتمعن بمجلس نسائي صباحي يطلق عليه «بسطة نساء» ليتم تناقل الأخبار والمستجدات وتحكي كل واحدة منهن ما جرى بالأمس في الفريج، ولذلك تعتبر نساء المنطقة مراسلات صحفيات في تلك الحقبة بحيث يقمن بوظيفة نقل الأخبار الخاصة بالفريج.
وإذا كانت إحداهن لديها مشكلة أو تعاني من مرض تبادر كل واحدة بتقديم المساعدة بما تمتلكه سواء إمكانيات علاجية أو خبرة تطبيبية أو وصفة شعبية، كما كانت تلك البسطة مكانا للبحث والتحري عن المعرس الذي تقدم لابنة فلانة لمعرفة أصله وفصله وأخلاقه ومن أين أتى وهل يصلح لابنة الفريج، وبناء على المعلومات التي يتم جمعها في البسطة النسائية، يصدر الرأي النهائي بشأن المعرس.
نساء هذه الحقبة كن أقوياء فترى المرأة تذهب لتغسل الملابس عند العين ثم تضع الغسيل فوق رأسها بينما تحمل في كل يد جرة مياه للاستخدام المنزلي.
ذكريات في الطفولة قد لا تفارق مخيلة الإنسان حدثنا عنها؟
- بالفعل فمن الحوادث الكبيرة التي حصلت خلال طفولتي حريق كبير في بداية الستينات دمر مجموعة هائلة من البيوت البرستة المبنية من السعف حتى إنها سويت بالأرض، واعتقد الأهالي آنذاك بأنها من فعل فاعل، وهذا ما أدى إلى هجرة بعض أهالي المنطقة مثل عائلة فلامرزي والذين انتقلوا إلى منطقة البسيتين.
وعلق في ذاكرتي ما حدث في عام 1963 حين انخفضت درجة الحرارة في البحرين إلى مستويات ما دون الصفر وحدث تجمد لمياه البحر حتى إننا كنا ننقل الأسماك التي تجمدت للبيت ثم تقوم النساء بتجفيفها لاستخدامها في وقت لاحق.
وشهدت المنطقة أحداثاً كثيرة في الستينات خاصة مع أهل المحرق الذين واجهوا الإنجليز وأذكر أن الأهالي قاموا بتدمير أحد بيوت الضباط الإنجليز ونقلوا الأمتعة والعفش من السكن إلى بيوتهم، وبعدها نزل الجيش البريطاني وأغلق الشوارع وفرض حظر تجول، فكان الناس يذهبون إلى الأسياف لقضاء حاجتهم ومن ثم التوضؤ من العين القريبة من المنطقة فيملأون جرة من الفخار بالماء الحلو للوضوء، لكن الإنجليز وضعوا أسلاكاً شائكة لمنع الناس من الخروج للشارع.
ماذا كان يعمل الوالد؟
- والدي من مواليد عشرينات القرن الماضي، وكان يعمل في خطوط البترول التابلين بالمملكة العربية السعودية، حتى تم افتتاح شركة نفط البحرين «بابكو» فانتقل للعمل فيها وتعلم شغل السباكة وتوصيلات الأنابيب.
وأذكر في تلك الفترة أن البيوت كانت تفتقد لتوصيلات المياه الحلوة حيث كان الناس يأتون بالمياه من العين، أو يشترونها من السقاء، لكن مع بداية الستينات تم إنشاء محطة تحلية مياه بالمحرق افتتحها المغفور له بإذن الله تعالى الأمير عيسى بن سلمان
آل خليفة، وبدأت عملية توصيل المياه للبيوت، حيث كان والدي المطلوب رقم واحد في المنطقة لما يتمتع به من خبرة في توصيلات الأنابيب، فكان يرجع من عمله في بابكو ليبدأ في المساء تركيب التوصيلات لبيوت الأهالي مجاناً بينما كنا نطمح لمدخول جديد يوسع علينا. وحين تسأله أمي.. هل حصلت على أجر، فيرد قائلاً: «أخجل أن أطلب من أهل الفريج مقابل فكلهم أصدقائي».
كيف حدث التطور في حياة الفريج بعد افتتاح محطة المياه؟
- في بداية عمل محطة المياه كان المسموح لكل بيت صنبور واحد فقط في حوش البيت، ثم تطور الأمر بالسماح بتوصيل صنبور آخر لحمام واحد من حمامات البيت، وعند تلك المرحلة انحسرت مهنة السقاء التي كانت مهنة يعمل فيها الرجال والنساء، وبدأت مهنة السباك والبايفيتر تزدهر.
كما أذكر في المرحلة الابتدائية، كنا نعود من المدرسة لأضع حقيبتي ثم أذهب إلى البحر لقضاء الحاجة كما كان يفعل الناس جميعاً قبل دخول المياه للبيوت، وفي طريق العودة أقوم بجمع الحطب الذي تستخدمه أمي في الطبخ، إلى أن انتقلت بعد ذلك للمرحلة الإعدادية وحينها بدأت الكهرباء تدخل البيوت وتزداد حاجات الناس وتكاليف معيشتهم، حيث بدأت فاتورة الكهرباء 4 روبيات ثم ارتفعت إلى 8 روبيات في الشهر وهذا كان معدلاً مرتفعاً بالنسبة للمداخيل آنذاك.
وكيف واجهت الأسرة هذه النقلة النوعية في الحياة؟
- كان لا بد أن أبحث عن مورد دخل إضافي، حيث أذهب مع والدتي إلى السوق لأشتري بعض الحلوى والمكسرات ثم أقوم ببيعها على أطفال الفريج، وفي رمضان أبيع باجلا وفول، ثم تطور الأمر فطلبت أمي من نجار أن تصنع لي عربة خشبية لبيع المزيد من الأصناف ومضاعفة الدخل. واستمر الحال إلى أن ذهبت إلى السعودية للعمل خلال الإجازة الصيفية حيث كنت أركب من فرضة المنامة إلى فرضة الخبر بعشرين روبية، ثم أذهب إلى الظهران لأسكن مع خالي الذي كان يعمل «شريطي» وهو «تاجر الشنطة» الذي يأتي ببضاعة من البحرين ليبيعها في السعودية ثم يعود بمثلها ليبيعها في البحرين، وكان له رفيق شريطي آخر من البحرين وهو جد الشيخ عبدالرحمن عبدالسلام، وكانا يسكنان في نفس المحل الذي يبيعان فيه بضاعتهما فأذهب وأقيم معهما وأنام أمام المحل لأن المكان لم يكن يسمح بثالث.
وفي تلك الفترة حصلت على عمل في جامعة البترول والمعادن، عند بداية إنشائها، حيث تم توظيفي فراشاً أصنع الشاي والقهوة لمدة 3 أشهر.
هل كان فرضاً عليك أن تعمل خلال مرحلة الطفولة؟
- لم يكن فيه أحد من جيلي يمكث في البيت، فكل شاب يجب أن يبحث عن عمل ولقد عملت في إحدى الإجازات الصيفية في البناء بثماني روبيات في اليوم، وما أن تنتهي الإجازة وتبدأ الدراسة تكون أصابعي قد تقطعت من الأسمنت، لكن كل ذلك من أجل جمع مبلغ أصرف منه وأشارك به في مصروف البيت.
هل تذكر أحداً من أصدقاء هذا الجيل؟
- خلال المرحلة الثانوية توسعت معارفي وصداقاتي، وكان من بينهم صديق عزيز على قلبي، وهو الراحل حاجي عبدالرحمن الذي توفي في حادث وكان خال الفنان راشد الماجد الذي حضرت زواج والديه.
حدثنا عن التخرج والحصول على وظيفة.
- بعد تخرجي من الثانوي كانت الوظائف متوفرة فقام والدي بالتوسط لدى علي محمد بن عتيق لكي يجد لي عملاً في وزارة التربية والتعليم، وكان حلمي أن أعمل معلماً لكن جاءتني مهنة أخرى، حيث تم تعييني في متحف البحرين بقسم الآثار باعتبارها إدارة تابعة لوزارة التربية والتعليم في ذلك الوقت، وكان المتحف عبارة عن زاوية صغيرة في مبنى الحكومة يديره أربعة موظفين، وتوليت مهمة فتح القاعة في الصباح ومتابعة الزوار وبيع الكتب والتذكارات للسياح.
متى بدأت العمل في الآثار؟
- خلال تلك الفترة تم التعاقد مع دكتور تاريخ وآثار عراقي يدعى عبدالقادر التكريتي لإدارة المتحف، ولكن قبل توليه الإدارة، عرض علي العمل في البحث الأثري ووافقت بسرعة، وكان رابع شخصية في فريق البحث عن الآثار والذي ضم الدكتور التكريتي وفايز الطراونة والشيخة هيا آل خليفة، وعملنا في أول موقع بمنطقة الدراز فنذهب إلى هناك بسيارة موريس صغيرة نركب فيها نحن الأربعة فتجلس الشيخة هيا بجانب السائق، بينما ثلاثتنا في المقعد الخلفي.
وأستطيع القول إن 90% من الآثار المخزنة في المتحف الوطني كانت من اكتشافات مجموعتنا التي ضمت الشيخة هيا والتي قدمت خدمة كبيرة للبحرين في اكتشاف الآثار الدلمونية، وهنا أذكر أننا اكتشفنا آثار في المنطقة التي يقع عليها شارع الشيخ عيسى بن سلمان المؤدي لجسر الملك فهد.
ومتى أنشئ المتحف الوطني الحالي؟
- المتحف الوطني كان من مقترحات الشيخة هيا، وحاز على موافقة مجلس الوزراء، وجيء بخبراء أجانب للبحث عن أنسب منطقة للبناء واختاروا في البداية قصر القضيبية، لكن ارتأت الحكومة الإبقاء على القصر كما هو لما له من قيمة تاريخية وكونه كان مقر الحكم وتلي فيه أول خطاب استقلال، فاقترحت الشيخة هيا المقر الحالي بجوار النادي البحري ووضعت تصميما على شكل مكعبات تم توزيع الآثار فيها على فترات زمنية مختلفة.
وتميزت أنشطة المتحف في تلك الفترة بإقامة المهرجان السنوي للتراث بجوار المتحف وكان أول مهرجان للتراث في الخليج أقيم في البحرين ومن بعدها حذت بقية دول الخليج حذونا، وكان المهرجان جمهور بحريني وخليجي كبير، فمن كثرة الزوار من مختلف دول الخليج، كانوا يتركون سياراتهم في مواقف جامع الفاتح ويأتون للمتحف سيراً على الأقدام، ولذلك أنشئ كوبري المشاة العلوي في المنطقة بسبب هذا المهرجان.
متى بدأت الدراسة العلمية للآثار؟
- بعد فترة من العمل الميداني في اكتشاف الآثار وترميمها كنا ننتهز الصيف في الصيانة والترميم حيث تعلمت هذه الأمور، وشغفت حباً بالآثار فكنت أذهب يومياً إلى مكتبة المحرق لأقرأ، ولاحظ مدير المكتبة ذاك الشغف، فأعطاني رسالة إلى أحد الأساتذة في العراق، وحصلت على أول فرصة للدراسة هناك، عندما كان أول أبنائي عمره 3 أشهر فقط، وتركته في رعاية أمه وذهبت إلى جامعة بغداد الأقرب للحضارة الدلمونية، ورغم خبرتي في العمل الميداني، إلا أنني اكتشفت هناك علوماً مثل كيفية تحليل الأثر ودراسته وترجمته إلى ورقة مكتوبة مفيدة للدارسين، فتعلمت قراءة الخط المسماري.
كيف ترى الحقبة الزمنية الكبيرة بين الدراسة الجامعية والتعليم العالي؟
- بالفعل فقد تركت الدراسة بعد البكالوريوس لمدة 20 سنة، لكن لاحظت أن الذين يأتون إلينا من الأكاديميين هم شباب بينما أنا في الخمسين من عمري، وأنا أمتلك خبرة أكبر منهم، فقررت أن أعود للدراسة مرة أخرى، لأن الناس ينظرون لشهادتك وليس الخبرة، فتوجهت إلى السعودية وحصلت على الماجستير بامتياز، حتى إنهم قالوا لي أنك لاتحتاج للدراسة.
أما قصة الدكتوراه، فجاءت من خلال مناسبة استضافة البحرين لمهرجان «أصيلة» المغربي وكنت ضمن فريق التنسيق والتنظيم للحضور حيث كان من بينهم وزير الخارجية المغربي، وطلبت منه مساعدتي في الدراسة بجامعة الملك محمد الخامس، ولم يتأخر وقتها وحصلت على بعثة دراسة الدكتوراه التي حصلت عليها بامتياز مع مرتبة الشرف، لأكون أول بحريني حاصل على الدكتوراه في الآثار والأوحد أيضاً.
حدثنا عن فترة ترؤسك لإدارة هيئة الآثار؟
- لا أنكر جهود الشيخة هيا التي منحتني الثقة في إدارة هيئة الآثار والمسؤول عن البحث والتنقيب والبعثات الأجنبية وتأسيس الفرق البحرينية، حيث أسست 4 فرق تنقيب بحرينية من الشباب، ونقلت إليهم معارفي وخبراتي في كيفية الحفر والتنقيب وكتابة التقارير، فكنا نخرج صباحاً من الساعة 5:30 للمواقع لنبدأ في تمام السادسة، واليوم أغلبهم وصلوا لمرحلة التقاعد دون وجود بديل.
ما هي خلاصة اكتشافاتك الأثرية والرسالة التي حملتها عبر آلاف السنين؟
- لدينا حضارة شعب فهم قيمة المواطنة والتعايش بمعناها الحقيقي.. شعب ضمن لأخيه الآخر بأن يتمتع بحياته في العالم الآخر وهذا ما لا تجده في الحضارات الأخرى، فالذي يظهر في الآثار الأخرى ما تركه الملوك والأسر، فعندما نتحدث عن آثار مصر نذكر الفراعنة والأسر الحاكمة، وعندما نتطرق لآثار العراق نذكر السومريين والبابليين والآشوريين وكل حقبة طغت وسيطرت في فترة زمنية، لكن التعايش الذي حدث في جزر البحرين استمر دون تسلط فئة على أخرى وإنما تمازج وتعايش فريد. وهذا ما أثبتته آثار البحرين من وجود معابد لديانات متعددة وحدوث تعايش فيما بين أبناء تلك الديانات، فأثارنا تؤكد أن هذه المعابد ظهرت واستوطنت واستخدمت في فترة زمنية واحدة وهو ما يعني أن أصحابها كانوا متعايشين متحابين، حتى إن المواقع الأثرية والتسلسل الطبقي الأثري الاستيطاني للإنسان يعود إلى فترات زمنية مختلفة، وهذا يعني أن الألفة الدينية والحضرية للمكان بقيت مستمرة، وهذا التعايش الذي نتحدث عنه لم يكن قبل قرن أو اثنين، ولكن 5 آلاف سنة قبل الميلاد وإذا تحدثنا عن التعايش فنحن مؤسسو التعايش في العالم.
كلمة أخيرة لأبناء الوطن.
- لن يترجم آثار الوطن إلا أبناء الوطن، ولذلك فلا بد أن يتم تهيئة كوادر وطنية لهذه المهمة الكبيرة.
الوحيد في البحرين الحاصل على دكتوراه في الآثار
إذا تحدثنا عن التعايش فنحن مؤسسوه قبل 5 آلاف سنة
أسست 4 فرق تنقيب بحرينية من الشباب ونقلت إليهم خبراتي
لن يترجم آثار الوطن إلا أبناؤه ولا بد من تهيئة كوادر وطنية
نشأ في حقبة ما قبل الماء والكهرباء، وشاهد في نساء الفريج دوراً إعلامياً واستقصائياً وأمنياً، وقوة وقدرة على أداء مهام مستحيلة بمفهوم هذا العصر، كما قضى بعضاً من طفولته في بيع الباجلا والفول والحلوى وكان عامل شاي وقهوة في المملكة العربية السعودية.
ومن خلال تنقيب فكري لتاريخه، سرد أستاذ الآثار الدكتور عبدالعزيز صويلح لـ«الوطن» كفاحه في العمل منذ نعومة أظفاره وقصته مع الآثار، ولم ينس دور الشيخة هيا آل خليفة في نحت تلك المسيرة وكتابة نصوص مسمارية ظلت عالقة في ذهنه حيث أكد أن 90% من الآثار المخزنة في المتحف الوطني كانت من اكتشافات مجموعة الأربعة التي ضمت الشيخة هيا والتي قدمت خدمة كبيرة للبحرين في اكتشاف الآثار.
وأكد أن من الحوادث الكبيرة التي حصلت خلال طفولته، حريق كبير في بداية الستينات دمر مجموعة هائلة من البيوت البرستة المبنية من السعف واعتقد الأهالي آنذاك بأنها من فعل فاعل، ما أدى إلى هجرة بعض أهالي المنطقة مثل عائلة فلامرزي إلى منطقة البسيتين. وفيما يأتي اللقاء:
ما هو أول مكان ظهر فيه أثر عبدالعزيز صويلح؟
- أنا من مواليد فريج علي راشد فخرو بالمحرق والقريب من مجلس بن هندي وهي المنطقة التي سكنها جدودي، وكانت العلاقات الاجتماعية بسيطة وأهلية في توصيفها، فتجد بيوت الختاي والمسيفر والطهمازي والمناعي ونبهان وزيمان وغيرهم مرتبطة بعلاقات نسب.
وتميز سكان المحرق بالطيبة والاجتماعية حتى مع الغريب فقد كان العمانيون يسكنون في منطقتنا وربطتنا بهم علاقة أهل وصداقة، وكانت الفرجان مناطق يعرف سكانها بعضهم البعض ولا يجرؤ غريب أن يدخل فيها أو يمر من بينها إلا ويقابله الشباب ويسألونه عن سبب تواجده ومن يريد في المنطقة.
كيف كان حال المرأة في هذا العصر متقارب البيوت والعوائل؟
- تميزت المرأة في هذه الحقبة بدور اجتماعي فريد من نوعه، في تولي حماية بيئتها وتبادل المعلومات والبحث والتحري واتخاذ القرارات، فعندما يذهب الرجال إلى أعمالهم في الصباح، يتركون البيوت وهم مطمئنون فـ«المجتمع الفريجي» يتولى مهام الحماية والحراسة والصحة والصحافة والبحث والتحري واتخاذ قرارات مهمة، فكانت النساء يجتمعن بمجلس نسائي صباحي يطلق عليه «بسطة نساء» ليتم تناقل الأخبار والمستجدات وتحكي كل واحدة منهن ما جرى بالأمس في الفريج، ولذلك تعتبر نساء المنطقة مراسلات صحفيات في تلك الحقبة بحيث يقمن بوظيفة نقل الأخبار الخاصة بالفريج.
وإذا كانت إحداهن لديها مشكلة أو تعاني من مرض تبادر كل واحدة بتقديم المساعدة بما تمتلكه سواء إمكانيات علاجية أو خبرة تطبيبية أو وصفة شعبية، كما كانت تلك البسطة مكانا للبحث والتحري عن المعرس الذي تقدم لابنة فلانة لمعرفة أصله وفصله وأخلاقه ومن أين أتى وهل يصلح لابنة الفريج، وبناء على المعلومات التي يتم جمعها في البسطة النسائية، يصدر الرأي النهائي بشأن المعرس.
نساء هذه الحقبة كن أقوياء فترى المرأة تذهب لتغسل الملابس عند العين ثم تضع الغسيل فوق رأسها بينما تحمل في كل يد جرة مياه للاستخدام المنزلي.
ذكريات في الطفولة قد لا تفارق مخيلة الإنسان حدثنا عنها؟
- بالفعل فمن الحوادث الكبيرة التي حصلت خلال طفولتي حريق كبير في بداية الستينات دمر مجموعة هائلة من البيوت البرستة المبنية من السعف حتى إنها سويت بالأرض، واعتقد الأهالي آنذاك بأنها من فعل فاعل، وهذا ما أدى إلى هجرة بعض أهالي المنطقة مثل عائلة فلامرزي والذين انتقلوا إلى منطقة البسيتين.
وعلق في ذاكرتي ما حدث في عام 1963 حين انخفضت درجة الحرارة في البحرين إلى مستويات ما دون الصفر وحدث تجمد لمياه البحر حتى إننا كنا ننقل الأسماك التي تجمدت للبيت ثم تقوم النساء بتجفيفها لاستخدامها في وقت لاحق.
وشهدت المنطقة أحداثاً كثيرة في الستينات خاصة مع أهل المحرق الذين واجهوا الإنجليز وأذكر أن الأهالي قاموا بتدمير أحد بيوت الضباط الإنجليز ونقلوا الأمتعة والعفش من السكن إلى بيوتهم، وبعدها نزل الجيش البريطاني وأغلق الشوارع وفرض حظر تجول، فكان الناس يذهبون إلى الأسياف لقضاء حاجتهم ومن ثم التوضؤ من العين القريبة من المنطقة فيملأون جرة من الفخار بالماء الحلو للوضوء، لكن الإنجليز وضعوا أسلاكاً شائكة لمنع الناس من الخروج للشارع.
ماذا كان يعمل الوالد؟
- والدي من مواليد عشرينات القرن الماضي، وكان يعمل في خطوط البترول التابلين بالمملكة العربية السعودية، حتى تم افتتاح شركة نفط البحرين «بابكو» فانتقل للعمل فيها وتعلم شغل السباكة وتوصيلات الأنابيب.
وأذكر في تلك الفترة أن البيوت كانت تفتقد لتوصيلات المياه الحلوة حيث كان الناس يأتون بالمياه من العين، أو يشترونها من السقاء، لكن مع بداية الستينات تم إنشاء محطة تحلية مياه بالمحرق افتتحها المغفور له بإذن الله تعالى الأمير عيسى بن سلمان
آل خليفة، وبدأت عملية توصيل المياه للبيوت، حيث كان والدي المطلوب رقم واحد في المنطقة لما يتمتع به من خبرة في توصيلات الأنابيب، فكان يرجع من عمله في بابكو ليبدأ في المساء تركيب التوصيلات لبيوت الأهالي مجاناً بينما كنا نطمح لمدخول جديد يوسع علينا. وحين تسأله أمي.. هل حصلت على أجر، فيرد قائلاً: «أخجل أن أطلب من أهل الفريج مقابل فكلهم أصدقائي».
كيف حدث التطور في حياة الفريج بعد افتتاح محطة المياه؟
- في بداية عمل محطة المياه كان المسموح لكل بيت صنبور واحد فقط في حوش البيت، ثم تطور الأمر بالسماح بتوصيل صنبور آخر لحمام واحد من حمامات البيت، وعند تلك المرحلة انحسرت مهنة السقاء التي كانت مهنة يعمل فيها الرجال والنساء، وبدأت مهنة السباك والبايفيتر تزدهر.
كما أذكر في المرحلة الابتدائية، كنا نعود من المدرسة لأضع حقيبتي ثم أذهب إلى البحر لقضاء الحاجة كما كان يفعل الناس جميعاً قبل دخول المياه للبيوت، وفي طريق العودة أقوم بجمع الحطب الذي تستخدمه أمي في الطبخ، إلى أن انتقلت بعد ذلك للمرحلة الإعدادية وحينها بدأت الكهرباء تدخل البيوت وتزداد حاجات الناس وتكاليف معيشتهم، حيث بدأت فاتورة الكهرباء 4 روبيات ثم ارتفعت إلى 8 روبيات في الشهر وهذا كان معدلاً مرتفعاً بالنسبة للمداخيل آنذاك.
وكيف واجهت الأسرة هذه النقلة النوعية في الحياة؟
- كان لا بد أن أبحث عن مورد دخل إضافي، حيث أذهب مع والدتي إلى السوق لأشتري بعض الحلوى والمكسرات ثم أقوم ببيعها على أطفال الفريج، وفي رمضان أبيع باجلا وفول، ثم تطور الأمر فطلبت أمي من نجار أن تصنع لي عربة خشبية لبيع المزيد من الأصناف ومضاعفة الدخل. واستمر الحال إلى أن ذهبت إلى السعودية للعمل خلال الإجازة الصيفية حيث كنت أركب من فرضة المنامة إلى فرضة الخبر بعشرين روبية، ثم أذهب إلى الظهران لأسكن مع خالي الذي كان يعمل «شريطي» وهو «تاجر الشنطة» الذي يأتي ببضاعة من البحرين ليبيعها في السعودية ثم يعود بمثلها ليبيعها في البحرين، وكان له رفيق شريطي آخر من البحرين وهو جد الشيخ عبدالرحمن عبدالسلام، وكانا يسكنان في نفس المحل الذي يبيعان فيه بضاعتهما فأذهب وأقيم معهما وأنام أمام المحل لأن المكان لم يكن يسمح بثالث.
وفي تلك الفترة حصلت على عمل في جامعة البترول والمعادن، عند بداية إنشائها، حيث تم توظيفي فراشاً أصنع الشاي والقهوة لمدة 3 أشهر.
هل كان فرضاً عليك أن تعمل خلال مرحلة الطفولة؟
- لم يكن فيه أحد من جيلي يمكث في البيت، فكل شاب يجب أن يبحث عن عمل ولقد عملت في إحدى الإجازات الصيفية في البناء بثماني روبيات في اليوم، وما أن تنتهي الإجازة وتبدأ الدراسة تكون أصابعي قد تقطعت من الأسمنت، لكن كل ذلك من أجل جمع مبلغ أصرف منه وأشارك به في مصروف البيت.
هل تذكر أحداً من أصدقاء هذا الجيل؟
- خلال المرحلة الثانوية توسعت معارفي وصداقاتي، وكان من بينهم صديق عزيز على قلبي، وهو الراحل حاجي عبدالرحمن الذي توفي في حادث وكان خال الفنان راشد الماجد الذي حضرت زواج والديه.
حدثنا عن التخرج والحصول على وظيفة.
- بعد تخرجي من الثانوي كانت الوظائف متوفرة فقام والدي بالتوسط لدى علي محمد بن عتيق لكي يجد لي عملاً في وزارة التربية والتعليم، وكان حلمي أن أعمل معلماً لكن جاءتني مهنة أخرى، حيث تم تعييني في متحف البحرين بقسم الآثار باعتبارها إدارة تابعة لوزارة التربية والتعليم في ذلك الوقت، وكان المتحف عبارة عن زاوية صغيرة في مبنى الحكومة يديره أربعة موظفين، وتوليت مهمة فتح القاعة في الصباح ومتابعة الزوار وبيع الكتب والتذكارات للسياح.
متى بدأت العمل في الآثار؟
- خلال تلك الفترة تم التعاقد مع دكتور تاريخ وآثار عراقي يدعى عبدالقادر التكريتي لإدارة المتحف، ولكن قبل توليه الإدارة، عرض علي العمل في البحث الأثري ووافقت بسرعة، وكان رابع شخصية في فريق البحث عن الآثار والذي ضم الدكتور التكريتي وفايز الطراونة والشيخة هيا آل خليفة، وعملنا في أول موقع بمنطقة الدراز فنذهب إلى هناك بسيارة موريس صغيرة نركب فيها نحن الأربعة فتجلس الشيخة هيا بجانب السائق، بينما ثلاثتنا في المقعد الخلفي.
وأستطيع القول إن 90% من الآثار المخزنة في المتحف الوطني كانت من اكتشافات مجموعتنا التي ضمت الشيخة هيا والتي قدمت خدمة كبيرة للبحرين في اكتشاف الآثار الدلمونية، وهنا أذكر أننا اكتشفنا آثار في المنطقة التي يقع عليها شارع الشيخ عيسى بن سلمان المؤدي لجسر الملك فهد.
ومتى أنشئ المتحف الوطني الحالي؟
- المتحف الوطني كان من مقترحات الشيخة هيا، وحاز على موافقة مجلس الوزراء، وجيء بخبراء أجانب للبحث عن أنسب منطقة للبناء واختاروا في البداية قصر القضيبية، لكن ارتأت الحكومة الإبقاء على القصر كما هو لما له من قيمة تاريخية وكونه كان مقر الحكم وتلي فيه أول خطاب استقلال، فاقترحت الشيخة هيا المقر الحالي بجوار النادي البحري ووضعت تصميما على شكل مكعبات تم توزيع الآثار فيها على فترات زمنية مختلفة.
وتميزت أنشطة المتحف في تلك الفترة بإقامة المهرجان السنوي للتراث بجوار المتحف وكان أول مهرجان للتراث في الخليج أقيم في البحرين ومن بعدها حذت بقية دول الخليج حذونا، وكان المهرجان جمهور بحريني وخليجي كبير، فمن كثرة الزوار من مختلف دول الخليج، كانوا يتركون سياراتهم في مواقف جامع الفاتح ويأتون للمتحف سيراً على الأقدام، ولذلك أنشئ كوبري المشاة العلوي في المنطقة بسبب هذا المهرجان.
متى بدأت الدراسة العلمية للآثار؟
- بعد فترة من العمل الميداني في اكتشاف الآثار وترميمها كنا ننتهز الصيف في الصيانة والترميم حيث تعلمت هذه الأمور، وشغفت حباً بالآثار فكنت أذهب يومياً إلى مكتبة المحرق لأقرأ، ولاحظ مدير المكتبة ذاك الشغف، فأعطاني رسالة إلى أحد الأساتذة في العراق، وحصلت على أول فرصة للدراسة هناك، عندما كان أول أبنائي عمره 3 أشهر فقط، وتركته في رعاية أمه وذهبت إلى جامعة بغداد الأقرب للحضارة الدلمونية، ورغم خبرتي في العمل الميداني، إلا أنني اكتشفت هناك علوماً مثل كيفية تحليل الأثر ودراسته وترجمته إلى ورقة مكتوبة مفيدة للدارسين، فتعلمت قراءة الخط المسماري.
كيف ترى الحقبة الزمنية الكبيرة بين الدراسة الجامعية والتعليم العالي؟
- بالفعل فقد تركت الدراسة بعد البكالوريوس لمدة 20 سنة، لكن لاحظت أن الذين يأتون إلينا من الأكاديميين هم شباب بينما أنا في الخمسين من عمري، وأنا أمتلك خبرة أكبر منهم، فقررت أن أعود للدراسة مرة أخرى، لأن الناس ينظرون لشهادتك وليس الخبرة، فتوجهت إلى السعودية وحصلت على الماجستير بامتياز، حتى إنهم قالوا لي أنك لاتحتاج للدراسة.
أما قصة الدكتوراه، فجاءت من خلال مناسبة استضافة البحرين لمهرجان «أصيلة» المغربي وكنت ضمن فريق التنسيق والتنظيم للحضور حيث كان من بينهم وزير الخارجية المغربي، وطلبت منه مساعدتي في الدراسة بجامعة الملك محمد الخامس، ولم يتأخر وقتها وحصلت على بعثة دراسة الدكتوراه التي حصلت عليها بامتياز مع مرتبة الشرف، لأكون أول بحريني حاصل على الدكتوراه في الآثار والأوحد أيضاً.
حدثنا عن فترة ترؤسك لإدارة هيئة الآثار؟
- لا أنكر جهود الشيخة هيا التي منحتني الثقة في إدارة هيئة الآثار والمسؤول عن البحث والتنقيب والبعثات الأجنبية وتأسيس الفرق البحرينية، حيث أسست 4 فرق تنقيب بحرينية من الشباب، ونقلت إليهم معارفي وخبراتي في كيفية الحفر والتنقيب وكتابة التقارير، فكنا نخرج صباحاً من الساعة 5:30 للمواقع لنبدأ في تمام السادسة، واليوم أغلبهم وصلوا لمرحلة التقاعد دون وجود بديل.
ما هي خلاصة اكتشافاتك الأثرية والرسالة التي حملتها عبر آلاف السنين؟
- لدينا حضارة شعب فهم قيمة المواطنة والتعايش بمعناها الحقيقي.. شعب ضمن لأخيه الآخر بأن يتمتع بحياته في العالم الآخر وهذا ما لا تجده في الحضارات الأخرى، فالذي يظهر في الآثار الأخرى ما تركه الملوك والأسر، فعندما نتحدث عن آثار مصر نذكر الفراعنة والأسر الحاكمة، وعندما نتطرق لآثار العراق نذكر السومريين والبابليين والآشوريين وكل حقبة طغت وسيطرت في فترة زمنية، لكن التعايش الذي حدث في جزر البحرين استمر دون تسلط فئة على أخرى وإنما تمازج وتعايش فريد. وهذا ما أثبتته آثار البحرين من وجود معابد لديانات متعددة وحدوث تعايش فيما بين أبناء تلك الديانات، فأثارنا تؤكد أن هذه المعابد ظهرت واستوطنت واستخدمت في فترة زمنية واحدة وهو ما يعني أن أصحابها كانوا متعايشين متحابين، حتى إن المواقع الأثرية والتسلسل الطبقي الأثري الاستيطاني للإنسان يعود إلى فترات زمنية مختلفة، وهذا يعني أن الألفة الدينية والحضرية للمكان بقيت مستمرة، وهذا التعايش الذي نتحدث عنه لم يكن قبل قرن أو اثنين، ولكن 5 آلاف سنة قبل الميلاد وإذا تحدثنا عن التعايش فنحن مؤسسو التعايش في العالم.
كلمة أخيرة لأبناء الوطن.
- لن يترجم آثار الوطن إلا أبناء الوطن، ولذلك فلا بد أن يتم تهيئة كوادر وطنية لهذه المهمة الكبيرة.