لقد وضع الإسلام نظاماً فريداً للاجتماع، يعتمد على التراحم والتعاطف، والتكافل والتكاتف، والتعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان، وقيام كل مسلم بما يجب عليه تجاه من يعامله أو يصل إليه.

وقد عظم الله حق المسلم على المسلم، وحق القريب على قريبه، وحق الجار على جاره. والقيام بهذه الحقوق من أهم أسباب السعادة للفرد والمجتمع. فإن الناس في هذه الدنيا ممتحنون، والمصائب تحيط بهم من كل جانب. والإنسان بمفرده أضعف من أن يصمد طويلاً أمام هذه الشدائد، ولئن صمد، فإنه يعاني من المشقة والجهد ما كان في غنى عنه لو أن إخوانه التفتوا إليه، وهرعوا لنجدته، وأعانوه في مشكلته، فالمرء قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه وجيرانه وأهله.

وأقرب الناس إلى الإنسان، وأكثرهم ملابسة له، ومعرفة بأحواله -بعد أهله وقرابته- هم جيرانه. بل لربما كان الجار في حالات كثيرة، أقرب إليهم، وأكثر إعانة لهم من القرابة والأصهار، فإن أهل البيت حين يفاجؤون بمشكلة، أو تحل بهم نازلة، ويحتاجون فيها إلى إغاثة عاجلة، فإنهم يهرعون مباشرة إلى جارهم، بحكم قربه منهم، وملاصقة داره لدارهم. ومن هنا يتبين شدة حاجة الجار إلى جاره، وقوة تأثيره فيه، وعظم حقه عليه، وأن القيام بحقه من أوجب الواجبات، ومن أكبر أسباب التكافل والتعاون في هذه الحياة، لتذليل عقباتها، وتخفيف مصاعبها، وأكبر أسباب الإعانة على البر والخير، والحماية من الإثم والشر.

والجيران أنواع حيث يقول الله تعالى: «وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ»، «النساء: 36»، فجمع سبحانه بين الأمر بعبادته والأمر بالإحسان إلى خلقه، ومن ذلك الإحسان إلى الجار مسلمًا كان أم كافرًا، قريبًا أم غريبًا، ملاصقًا أم بعيدًا. وقوله تعالى: «وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى»، أي: الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجنب أي الغريب الذي لا قرابة بينك وبينه، وهذا قول أكثر المفسرين. وقيل: «وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى» هو الجار المسلم، «وَالْجَارِ الْجُنُبِ» هو الجار الكافر. وقيل: «وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى» هو الجار القريب جواره، «وَالْجَارِ الْجُنُبِ» هو المجانب، وهو من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة. وكل هذه المعاني صحيحة والآية تشملها وتدل عليها. أما الجار الذي بينك وبينه قرابة له حق أعلى من الجار الأجنبي، وحق الجار المسلم أعلى من الجار الكافر، والملاصق حقه مقدم على حق البعيد، وقد روى البخاري، «صحيح البخاري: 2140» عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «قلت: «يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟» قال: «إلى أقربهما منك بابًا»».

واختلف العلماء في من يشمله اسم الجوار على أقوال كثيرة، من ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: «من سمع النداء فهو جار»، فكل من يسمع صوت مؤذن الحي الذي يؤذن بدون مكبر صوت، فإنهم يعتبرون جيرانًا. وقيل: من سمع إقامة الصلاة، فهو جار. وقيل: من صلى معك صلاة الفجر في المسجد فهو جار. وقيل: من جمعتهم محلة أو حي، فهم جيران. وقيل: حد الجوار أربعون داراً من كل ناحية. وهذا قول عائشة والأوزاعي والحسن البصري والزهري وغيرهم.

ولقد حفلت السنة النبوية بنصوص كثيرة توصي بالجار، وتؤكد حقه، وتأمر بإكرامه والإحسان إليه، وتتوعد على إيذائه وعقوقه. فعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»، «رواه البخاري ومسلم». وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه ذبح شاة، فقال: «هل أهديتم منها لجارنا اليهودي»، ثلاث مرات، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»، «رواه أبو داود والترمذي وأحمد، وحسنه الترمذي». ويقول عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» وفي رواية: «فليحسن إلى جاره»، «رواه البخاري ومسلم». وهذا يدل على أن إكرام الجار، وطيب المعاملة له من شعب الإيمان، وسمات المؤمنين، وأن من لم يكرم جاره لم يتم إيمانه. وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه»، «رواه مسلم». فبين عليه الصلاة والسلام أن كمال الإيمان الواجب لا يتم إلا بأن يحب المسلم لجاره ما يحب لنفسه من الخير. وهو يستلزم كذلك أن يكره له ما يكره لنفسه من الشر. بل بين صلى الله عليه وسلم أن خير الناس وأفضلهم هو خيرهم لجاره وصاحبه، فقال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره»، «رواه الترمذي وأحمد والبخاري».