أيمن شكل
شدد علماء شريعة، على أهمية الوفاء بالعهود في الإسلام حيث ورد بها العديد من الٱيات والأحاديث النبوية، منوهين بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوفى بعهوده للمسلمين والكفار فكان مثلا للوفاء بالعهد للبشر أجمعين.
وأكد الشيخ د. أحمد العازمي، أن القيم الإنسانية العليا تحتل مكاناً عظيماً في الشريعة الإسلامية؛ ذلك لأن هذه القيم والمبادئ تعتبر قاعدة أساسية لبناء المجتمعات والتواصل البشري والحضاري ما بين مختلف فئات المجتمع وأطيافه بل وحتى في التعاون الدولي ما بين مختلف الدول.
وأشار إلى النصوص العديدة التي تؤكد على هذه القيم والمبادئ في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يقول سبحانه وتعالى في معرض تعداده لصفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس الأعلى من الجنة: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} [المؤمنون: 8] فيراعون العهود والمواثيق، ويفون بها، ولا ينقضونها خيانةً وغدراً وغشاً وخداعاً.
ولفت إلى قوله جل وعلا في سورة البقرة في أثناء تعداده لصفات المؤمنين الصادقين المتقين: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} [البقرة: 177]، كما جاءت بصيغة الأمر في قوله سبحانه: {وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلَّكم تذكَّرون} [الأنعام: 152]، وقوله جل وعلا: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون} [النحل: 91].
وتطرق العازمي، إلى ما ورد من صفات الأشقياء التعساء في الدنيا والآخرة، وهو نقض العهد من بعد توكيده، حيث يقول جل وعلا: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنةُ ولهم سوء الدار} [الرعد:25].
وأضاف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بين أن الغدر في العهد يعتبر صفةً من صفات المنافقين التي يعرفون بها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها)، وكذلك تحذيره الحديث القدسي من خطورة وشناعة العهود والمواثيق التي يعطيها الإنسان بالحلف والأيمان المؤكدة ثم لا يفي بها: (قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يومَ القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره).
وأوضح أن العهود التي يجب حفظها والوفاء بها تنقسم إلى قسمين: قسمٌ مع الله سبحانه وتعالى، وقسمٌ آخر مع الناس، مشيرا إلى أن حفظ العهد مع الله جل وعلا يكون بالالتزام بما شرع جل وعلا لعباده، وفي ذلك يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: (كل ما أحل الله وما حرم وما فرض في القرآن فهو عهد)؛ ذلك أن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هو تمام الخضوع والانقياد لله جل وعلا في ما يأمر به وما ينهى عنه، ولا بد على المؤمن من حفظ هذا العهد الذي بينه وبين الله سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: {وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون} [البقرة: 40].
وقال: "متى ما أوفى المؤمن بعهده مع الله أوفى الله عهده معه وكتب له الأجر العظيم عنده" قال الله تعالى {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللهَ يدُ الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكثُ على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً} [الفتح: 10].
وحول القسم الثاني من حفظ العهود وهو حفظ العهد مع الناس، أكد د. العازمي أنه يكون بالوفاء لما بين الناس من عقود ومواثيق والتزامات.
وأوضح العازمي أن هذه العقود والمواثيق متنوعة المجالات، فقد تكون متعلقة بالأسرة، فيفي الزوج بما عليه من حقوق والتزامات تجاه زوجته وأبنائه، وتفي الزوجة كذلك بما عليها من حقوق والتزامات تجاه زوجها وأبنائها، ويفي الأبناء بما عليهم من حقوق تجاه آبائهم وأمهاتهم، وقد تكون هذه العقود والمواثيق في مجال التجارة وما يكون بين الناس من معاملات مالية، فيلتزم كل طرف من طرفي التعاقد بما عليه من التزامات ولا يماطل بها، وقد تكون هذه العهود والعقود والمواثيق فيما بين الإنسان وبين عموم بني مجتمعه وأمته، مما تستوجب عليه التعامل الحسن، وبذل النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة المظلوم، والوقوف مع من نزل به كرب وبلاء، وهكذا في سائر معاملات الناس لا بد من حفظ العهود والمواثيق والوفاء بها. كما قال جل وعلا: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34]، وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1].
من جانبه، عرف الشيخ موسى الطارقي الوفاء بأنه ضد الغَدْر، فيقال: أوفى: إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه، مشيرا إلى ما ذكره الرّاغب بأن الوافي هو الّذي بلغ التّمام من كلّ شيء، وما جاء في كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم بأن الوفاء بالعهود قيمة إنسانيّة وأخلاقيّة عظمى لأنّه يرسي دعائم الثّقة في الأفراد ويؤكّد أواصر التّعاون في المجتمع.
وقال: "الوفاء أخو الصّدق والعدل، والغدر: أخو الكذب والجور"، ذلك أنّ الوفاء هو صدق اللّسان والفعل معا، والغدر كذب بهما، لأنّ فيه مع الكذب نقض للعهد.
وأكد الطارقي أن الوفاء يختصّ بالإنسان، فمن فُقِدَ فيه الوفاء فقد انسلخ من الإنسانيّة، وقال: جعل الله تعالى العهد من الإيمان وصيّره قواماً لأمور النّاس، فالنّاس مضطرّون إلى التّعاون، ولا يتمّ تعاونهم إلّا بمراعاة العهد والوفاء به، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التّعايش.
وأضاف: لذلك عظّم الله تعالى أمر الوفاء فقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وقيل في معنى قوله عزّ وجلّ: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ)، أي نزّه نفسك عن الغدر، وقد مدح الله تعالى الموفين بالعهود في قوله تعالى: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ).
ونوه الطارقي إلى ما ورد في تفسير فتح البيان لأبي الطيب القنوجي بشأن مقاصد القرآن في قوله تعالى: "(الذين يوفون بعهد الله) أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم أو فيما بينهم وبين العباد (ولا ينقضون الميثاق) الذي وثقوه على أنفسهم وأكدوه بالإيمان ونحوها، وقال إن هذا تعميم بعد التخصيص لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها".
ونوه الشيخ موسى إلى ما روي عن ابن عطاء حيث يقول: إن "العبودية في أربع خصال: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرضا بالموجود، والصبر عن المفقود".
ولفت إلى أن من أنواع الوفاء المطلوبة هو الوفاء مع من ولانا الله عليهم من خدم وسائقين وكل من يعمل تحتنا، وإن أداء حقهم في الوقت المطلوب وبطيب نفس من أنواع الوفاء الجميلة التي تبين رقي النفس وعلو الأخلاق، وجمال الطبع.
وروى الطارقي قصة ثلاثة النفر، من بني إسرائيل الذين انطبقت عليهم الصخرة فأخبر النبي بما كان منهم من توسل إلى الله بأعمالهم الصالحة وكانت قصة ثالثهم أنه كان وفياً مع أجير استأجره ولم يأخذ حقه فاستثمره له وحفظه له حتى كثر فماذا قال؟ قال:"اللهُم إنِّي استَأجَرتُ أجَرَاءَ، فأعطَيتُهُم أجرَهُم غيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الذي له وذَهَبَ، فَثَمَّرتُ أجرَهُ حتَّى كَثُرَت منه الأموَالُ، فَجَاءَنِي بَعدَ حِينٍ فَقالَ: يا عَبدَ الله أدِّ إلَيَّ أجرِي، فَقُلتُ له: كُلُّ ما تَرَى مِن أجرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيقِ، فَقالَ: يا عَبدَ الله لا تَستَهزِئُ بي، فَقُلتُ: إنِّي لا أستَهزِئُ بكَ، فأخَذَهُ كُلَّهُ، فَاستَاقَهُ، فَلَم يَترُك منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإن كُنتُ فَعَلتُ ذلكَ ابتِغَاءَ وجهِكَ، فَافرُج عَنَّا ما نَحنُ فِيهِ، فَانفَرَجَتِ الصَّخرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُون".
وقال الطارقي: "ضرب لنا رسول الله مثلاً رائعاً للوفاء حيث رد مفتاح الكعبة إلى من كان يحفظه، ولو أعطاه لغيره لما راجعه أحد لأنه هو المنتصر، إلا أنه لم يجعله انتصاره وظهوره على قريش في يوم الفتح ينسى خلق الوفاء الذي تعطرت به سيرته في جميع محطاتها".
وأردف: "لو رجعنا إلى الوراء قليلاً إلى بداية العهد المكي وفي الوقت الذي كانت قريش هي المسيطرة وكانت تسوم المسلمين سوء العذاب، بل وتحارب رسول الإسلام بكل الطرق والوسائل لدرجة أنهم اتفقوا على اغتياله قبل هجرته ليخرج من بين أيديهم بحفظ الله وعنايته لم يمسسه سوء، ويفاجئهم بترك علي بن أبي طالب في فراشه ليؤدي عنه ودائع قريش التي كانت تحاربه، أتساءل: أي وفاء أعظم من هذا الوفاء.. وأي خلق أكرم وأعظم من هذا الخلق، وهذا مصداق قوله تعالى: ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا).
بدوره، أشار د. حمزة فلامرزي، إلى حرص الشريعة الإسلامية على صيانة منظومة القيم الأخلاقية في المجتمعات المسلمة، ذلك لأنه بقدر ما يختل منها في معاملات الناس بقدر ما يختل ترابط المجتمع في علاقاته وتتلاشى الثقة بينهم، الأمر الذي يستدعي معه إنشاء منظومة تشريعية تأديبية توازي ما اختل من نظام الأخلاق في الناس صيانة لحالة الترابط في المجتمع الواحد.
وأكد أن من تلك القيم السامية "الوفاء بالعهود"، حيث تمثلت في خُلق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وثناء الله تعالى على النبي إبراهيم عليه السلام حين وفَّى بالبلاغ فقال سبحانه: ((وإبراهيمَ الذي وفَّى))، وأن هذه التربية العملية أثمرت في ابنه إسماعيل عليه السلام حيث قال سبحانه في معرض الثناء عليه: ((واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّاً)).
وقال: "وفَّى النبي صلى الله عليه وسلم لأعدائه كما وفَّى لأصحابه، والشاهد في ذلك ما ورد في حديث حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: (ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، فقال: ((انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم))"؛ رواه مسلم في صحيحه.
وأضاف: بل كان وفاؤه صلى الله عليه وسلم بالعهد علامةً من علامات نُبوَّته، ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "وهل يغدر؟"، قال أبوسفيان: "لا"، قال: "وكذلك الأنبياء لا يغدرون".
ونوه فلامرزي إلى تأكيد الإسلام على ضرورة الوفاء بالعهد حتى في ما يتعهد به المسلم مع نفسه في ما لا معصية فيه، وفي ما يدخل في حدود استطاعته، كما في النَّذر، مشيرا إلى قول صلى الله عليه وسلم: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه))؛ رواه البخاري.
في السياق ذاته أوضح عبدالله الطهمازي، أن الوفاء صفة من صفات الله عز وجل حين قال تعالى (ومن أوفى بعهده من الله)، فالمؤمن المستقيم على أمر الله المجتنب لما نهى، فالله وفي له في دنياه وفي أخراه والأنبياء جميعا متخلقون بهذا الخلق العظيم لأنهم متخلقون بأخلاق الله فقال سبحانه عن خليله إبراهيم (وإبراهيم الذي وفى) وقال سبحانه عن إسماعيل عليه السلام (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا) وقدوتنا في ذلك أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم فقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق فكان مثالا أعلى في كل خلق حسن فكان يوفي بالوعد مع المسلم والكافر البر والفاجر فلم يخلف عهده حتى مع من آذوه وطردوه من كفار قريش.
وقال الطهمازي: "مما يدل على وفاء الرسول معهم أنه حين هاجر كانت أموال كثير من قريش عنده ورغم أنهم تٱمروا عليه لم يقرب أموالهم وإنما عهد إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يحفظ أموالهم ويردها إليهم ثم يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في هجرته".
{{ article.visit_count }}
شدد علماء شريعة، على أهمية الوفاء بالعهود في الإسلام حيث ورد بها العديد من الٱيات والأحاديث النبوية، منوهين بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوفى بعهوده للمسلمين والكفار فكان مثلا للوفاء بالعهد للبشر أجمعين.
وأكد الشيخ د. أحمد العازمي، أن القيم الإنسانية العليا تحتل مكاناً عظيماً في الشريعة الإسلامية؛ ذلك لأن هذه القيم والمبادئ تعتبر قاعدة أساسية لبناء المجتمعات والتواصل البشري والحضاري ما بين مختلف فئات المجتمع وأطيافه بل وحتى في التعاون الدولي ما بين مختلف الدول.
وأشار إلى النصوص العديدة التي تؤكد على هذه القيم والمبادئ في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يقول سبحانه وتعالى في معرض تعداده لصفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس الأعلى من الجنة: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} [المؤمنون: 8] فيراعون العهود والمواثيق، ويفون بها، ولا ينقضونها خيانةً وغدراً وغشاً وخداعاً.
ولفت إلى قوله جل وعلا في سورة البقرة في أثناء تعداده لصفات المؤمنين الصادقين المتقين: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} [البقرة: 177]، كما جاءت بصيغة الأمر في قوله سبحانه: {وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلَّكم تذكَّرون} [الأنعام: 152]، وقوله جل وعلا: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون} [النحل: 91].
وتطرق العازمي، إلى ما ورد من صفات الأشقياء التعساء في الدنيا والآخرة، وهو نقض العهد من بعد توكيده، حيث يقول جل وعلا: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنةُ ولهم سوء الدار} [الرعد:25].
وأضاف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بين أن الغدر في العهد يعتبر صفةً من صفات المنافقين التي يعرفون بها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها)، وكذلك تحذيره الحديث القدسي من خطورة وشناعة العهود والمواثيق التي يعطيها الإنسان بالحلف والأيمان المؤكدة ثم لا يفي بها: (قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يومَ القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره).
وأوضح أن العهود التي يجب حفظها والوفاء بها تنقسم إلى قسمين: قسمٌ مع الله سبحانه وتعالى، وقسمٌ آخر مع الناس، مشيرا إلى أن حفظ العهد مع الله جل وعلا يكون بالالتزام بما شرع جل وعلا لعباده، وفي ذلك يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: (كل ما أحل الله وما حرم وما فرض في القرآن فهو عهد)؛ ذلك أن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هو تمام الخضوع والانقياد لله جل وعلا في ما يأمر به وما ينهى عنه، ولا بد على المؤمن من حفظ هذا العهد الذي بينه وبين الله سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: {وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون} [البقرة: 40].
وقال: "متى ما أوفى المؤمن بعهده مع الله أوفى الله عهده معه وكتب له الأجر العظيم عنده" قال الله تعالى {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللهَ يدُ الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكثُ على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً} [الفتح: 10].
وحول القسم الثاني من حفظ العهود وهو حفظ العهد مع الناس، أكد د. العازمي أنه يكون بالوفاء لما بين الناس من عقود ومواثيق والتزامات.
وأوضح العازمي أن هذه العقود والمواثيق متنوعة المجالات، فقد تكون متعلقة بالأسرة، فيفي الزوج بما عليه من حقوق والتزامات تجاه زوجته وأبنائه، وتفي الزوجة كذلك بما عليها من حقوق والتزامات تجاه زوجها وأبنائها، ويفي الأبناء بما عليهم من حقوق تجاه آبائهم وأمهاتهم، وقد تكون هذه العقود والمواثيق في مجال التجارة وما يكون بين الناس من معاملات مالية، فيلتزم كل طرف من طرفي التعاقد بما عليه من التزامات ولا يماطل بها، وقد تكون هذه العهود والعقود والمواثيق فيما بين الإنسان وبين عموم بني مجتمعه وأمته، مما تستوجب عليه التعامل الحسن، وبذل النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة المظلوم، والوقوف مع من نزل به كرب وبلاء، وهكذا في سائر معاملات الناس لا بد من حفظ العهود والمواثيق والوفاء بها. كما قال جل وعلا: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34]، وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1].
من جانبه، عرف الشيخ موسى الطارقي الوفاء بأنه ضد الغَدْر، فيقال: أوفى: إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه، مشيرا إلى ما ذكره الرّاغب بأن الوافي هو الّذي بلغ التّمام من كلّ شيء، وما جاء في كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم بأن الوفاء بالعهود قيمة إنسانيّة وأخلاقيّة عظمى لأنّه يرسي دعائم الثّقة في الأفراد ويؤكّد أواصر التّعاون في المجتمع.
وقال: "الوفاء أخو الصّدق والعدل، والغدر: أخو الكذب والجور"، ذلك أنّ الوفاء هو صدق اللّسان والفعل معا، والغدر كذب بهما، لأنّ فيه مع الكذب نقض للعهد.
وأكد الطارقي أن الوفاء يختصّ بالإنسان، فمن فُقِدَ فيه الوفاء فقد انسلخ من الإنسانيّة، وقال: جعل الله تعالى العهد من الإيمان وصيّره قواماً لأمور النّاس، فالنّاس مضطرّون إلى التّعاون، ولا يتمّ تعاونهم إلّا بمراعاة العهد والوفاء به، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التّعايش.
وأضاف: لذلك عظّم الله تعالى أمر الوفاء فقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وقيل في معنى قوله عزّ وجلّ: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ)، أي نزّه نفسك عن الغدر، وقد مدح الله تعالى الموفين بالعهود في قوله تعالى: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ).
ونوه الطارقي إلى ما ورد في تفسير فتح البيان لأبي الطيب القنوجي بشأن مقاصد القرآن في قوله تعالى: "(الذين يوفون بعهد الله) أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم أو فيما بينهم وبين العباد (ولا ينقضون الميثاق) الذي وثقوه على أنفسهم وأكدوه بالإيمان ونحوها، وقال إن هذا تعميم بعد التخصيص لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها".
ونوه الشيخ موسى إلى ما روي عن ابن عطاء حيث يقول: إن "العبودية في أربع خصال: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرضا بالموجود، والصبر عن المفقود".
ولفت إلى أن من أنواع الوفاء المطلوبة هو الوفاء مع من ولانا الله عليهم من خدم وسائقين وكل من يعمل تحتنا، وإن أداء حقهم في الوقت المطلوب وبطيب نفس من أنواع الوفاء الجميلة التي تبين رقي النفس وعلو الأخلاق، وجمال الطبع.
وروى الطارقي قصة ثلاثة النفر، من بني إسرائيل الذين انطبقت عليهم الصخرة فأخبر النبي بما كان منهم من توسل إلى الله بأعمالهم الصالحة وكانت قصة ثالثهم أنه كان وفياً مع أجير استأجره ولم يأخذ حقه فاستثمره له وحفظه له حتى كثر فماذا قال؟ قال:"اللهُم إنِّي استَأجَرتُ أجَرَاءَ، فأعطَيتُهُم أجرَهُم غيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الذي له وذَهَبَ، فَثَمَّرتُ أجرَهُ حتَّى كَثُرَت منه الأموَالُ، فَجَاءَنِي بَعدَ حِينٍ فَقالَ: يا عَبدَ الله أدِّ إلَيَّ أجرِي، فَقُلتُ له: كُلُّ ما تَرَى مِن أجرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيقِ، فَقالَ: يا عَبدَ الله لا تَستَهزِئُ بي، فَقُلتُ: إنِّي لا أستَهزِئُ بكَ، فأخَذَهُ كُلَّهُ، فَاستَاقَهُ، فَلَم يَترُك منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإن كُنتُ فَعَلتُ ذلكَ ابتِغَاءَ وجهِكَ، فَافرُج عَنَّا ما نَحنُ فِيهِ، فَانفَرَجَتِ الصَّخرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُون".
وقال الطارقي: "ضرب لنا رسول الله مثلاً رائعاً للوفاء حيث رد مفتاح الكعبة إلى من كان يحفظه، ولو أعطاه لغيره لما راجعه أحد لأنه هو المنتصر، إلا أنه لم يجعله انتصاره وظهوره على قريش في يوم الفتح ينسى خلق الوفاء الذي تعطرت به سيرته في جميع محطاتها".
وأردف: "لو رجعنا إلى الوراء قليلاً إلى بداية العهد المكي وفي الوقت الذي كانت قريش هي المسيطرة وكانت تسوم المسلمين سوء العذاب، بل وتحارب رسول الإسلام بكل الطرق والوسائل لدرجة أنهم اتفقوا على اغتياله قبل هجرته ليخرج من بين أيديهم بحفظ الله وعنايته لم يمسسه سوء، ويفاجئهم بترك علي بن أبي طالب في فراشه ليؤدي عنه ودائع قريش التي كانت تحاربه، أتساءل: أي وفاء أعظم من هذا الوفاء.. وأي خلق أكرم وأعظم من هذا الخلق، وهذا مصداق قوله تعالى: ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا).
بدوره، أشار د. حمزة فلامرزي، إلى حرص الشريعة الإسلامية على صيانة منظومة القيم الأخلاقية في المجتمعات المسلمة، ذلك لأنه بقدر ما يختل منها في معاملات الناس بقدر ما يختل ترابط المجتمع في علاقاته وتتلاشى الثقة بينهم، الأمر الذي يستدعي معه إنشاء منظومة تشريعية تأديبية توازي ما اختل من نظام الأخلاق في الناس صيانة لحالة الترابط في المجتمع الواحد.
وأكد أن من تلك القيم السامية "الوفاء بالعهود"، حيث تمثلت في خُلق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وثناء الله تعالى على النبي إبراهيم عليه السلام حين وفَّى بالبلاغ فقال سبحانه: ((وإبراهيمَ الذي وفَّى))، وأن هذه التربية العملية أثمرت في ابنه إسماعيل عليه السلام حيث قال سبحانه في معرض الثناء عليه: ((واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّاً)).
وقال: "وفَّى النبي صلى الله عليه وسلم لأعدائه كما وفَّى لأصحابه، والشاهد في ذلك ما ورد في حديث حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: (ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، فقال: ((انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم))"؛ رواه مسلم في صحيحه.
وأضاف: بل كان وفاؤه صلى الله عليه وسلم بالعهد علامةً من علامات نُبوَّته، ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "وهل يغدر؟"، قال أبوسفيان: "لا"، قال: "وكذلك الأنبياء لا يغدرون".
ونوه فلامرزي إلى تأكيد الإسلام على ضرورة الوفاء بالعهد حتى في ما يتعهد به المسلم مع نفسه في ما لا معصية فيه، وفي ما يدخل في حدود استطاعته، كما في النَّذر، مشيرا إلى قول صلى الله عليه وسلم: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه))؛ رواه البخاري.
في السياق ذاته أوضح عبدالله الطهمازي، أن الوفاء صفة من صفات الله عز وجل حين قال تعالى (ومن أوفى بعهده من الله)، فالمؤمن المستقيم على أمر الله المجتنب لما نهى، فالله وفي له في دنياه وفي أخراه والأنبياء جميعا متخلقون بهذا الخلق العظيم لأنهم متخلقون بأخلاق الله فقال سبحانه عن خليله إبراهيم (وإبراهيم الذي وفى) وقال سبحانه عن إسماعيل عليه السلام (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا) وقدوتنا في ذلك أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم فقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق فكان مثالا أعلى في كل خلق حسن فكان يوفي بالوعد مع المسلم والكافر البر والفاجر فلم يخلف عهده حتى مع من آذوه وطردوه من كفار قريش.
وقال الطهمازي: "مما يدل على وفاء الرسول معهم أنه حين هاجر كانت أموال كثير من قريش عنده ورغم أنهم تٱمروا عليه لم يقرب أموالهم وإنما عهد إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يحفظ أموالهم ويردها إليهم ثم يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في هجرته".