في بداية تخصصي، كنت أتصور أنه لا يوجد الكثير من تقديمه لذوي الاحتياجات الخاصة وبتراكم الخبرات بدأ هذا الوهم في الزوال وبدأت أرى بعضهم لديه قدرات تفوق الأسوياء ويحصد بطولات دولية. من منا يستطيع إذا سألته مثلاً أي يوم يوافق ١٦/٩/١٩٥٨ يجيبك في خلال ثانية واحدة "الثلاثاء" ؟!!! هذه قدرة مذهلة في منتهى الدقة.

رأيت آخر، يعمل مدرب رياضات بدنية، ونجح في تنمية جسده وتدريب الآخرين وأوجد من ذلك حرفة تجعله يعتمد على نفسه رغم الإعاقة المصحوبة بأعراض نفسية قد تشل الأسوياء.ومنهم من تخرج من الجامعة وأصبح بروفيسوراً ويعلم الآخرين.

وفي هذا المقام لا يمكن أن ننسى أن هذه التجارب الناجحة وراءها أم أو أب أو مقدم رعاية مؤمن بمهمته ومصر على الوصول لهدفه فأعطى بلا حدود واستثمر حياته استثماراً منقطع النظير. رأيت حب هذه الأم وهذا الأب يعميه عن الإعاقة ويتوحد مع ما تستطيع الابنة أو الابن عمله ويبني عليه إلى أن يأتيك ببناء شامخ تفخر به أكثر من فخرك بنجاح الأسوياء وكأن القدر يقول: "الجزاء من جنس العمل"، فترى إحساساً بالإنجاز يعوض كل آلام التجربة المريرة التي صاحبت التعامل مع الإعاقة.

يحكي شخص من ذوي الاحتياجات، أنه كان يدرس في صف ما يسمى بالدمج أي يوضع الطفل المعوق مع الأسوياء لدمجه معهم. يقول: "إنه لم يستفد من هذا الدمج بل ازدادت عزلته لأن الأطفال الأسوياء يعرفون ما يفعلون أما هو فقد ترك وحيداً في آخر الصف يعبث بالورق والقلم ولم يزده هذا الدمج إلا ابتعاداً عن الأسوياء المندمجين مع بعضهم البعض".

يقول جاءني شخص من خارج الصف وجلس بجواري في آخر الصف وأخذ يعبث بالقلم على الورق تماماً مثل ما أفعل وتعمد أن يقلدني فيما أفعل تماماً فاخذت أنظر وأقارن بين ما أفعله وما يفعله إلى أن اكتشفت، أن هناك آخر في هذا الصف يفعل مثل ما أفعل ويشاركني وحدتي وعزلتي في الصف. وبعدما اكتسب ثقتي وربطني به وجدته يقوم بتلوين العبث الذي نعبث به سويا وشدتني الألوان الذي استعملها فأخذت أقلده في التلوين ووجدت أنه بدأ يحول العبث إلى أشكال مفهومة مثل الشجرة والمنزل والأشخاص وقلدته في ذلك إلى أن نشأت علاقة زمالة بيني وبينه ونجح بنزوله إلى مستواي أن ينتشلني من غرق الإعاقة تدريجياً إلى أن بدأت اتعلم أشياء بسيطة منه مما زادني حماساً إلى أن اقترب مستواي من مستوى التلاميذ الآخرين بالصف وهنا حدث الدمج الحقيقي وأكملت دراستي وهاآنذا أصبحت بروفيسوراً ألقي هذه المحاضرة بعد أن كنت طفلاً معاقاً ذهنياً في يوم من الأيام.

إن هذا المثال، يعطي المفتاح للوصول إلى هؤلاء أصحاب الهمم وهو أن تنزل إلى مستواه إلى أن تبني العلاقة التي من خلالها يستطيع بناء نفسه حاله حال غيره من الأسوياء.

ربما تبدو هذه المهمة سهلة ولكنها تحتاج إلى مجهود من العمل المؤسسي والمجتمعي والأسري الذي يحتوي صاحب الهمة ويرعى من يقدم الرعاية له. فمثلما يحتاج ذوو الهمم أن يعرفوا ماذا يفعلون فإن الآباء والأمهات أيضاً يحتاجون إلى المتخصصين والمؤسسات المتخصصة التي تعرفهم ماذا يفعلون وتدعمهم في رحلتهم إلى النجاح.

الخلاصة، إن نجاح أصحاب الهمم ممكن إذا وجد الإيمان بالهدف والعزيمة والإصرار والمعرفة.

د عبدالكريم مصطفى

مستشفى سيرين للطب النفسي