تحكم الحياة الأسرية شبكة معقدة من الروابط العاطفية، التي تُشكّل نسيج العلاقات وتحدد مسار الصحة النفسية لأفرادها. بيد أن هذه الروابط قد تتعرض لمفارقة مؤلمة تُعرف بـ«البتْر العاطفي»، emotional cut off وهي ظاهرة تشبه إلى حد ما عملية البتر الجسدي، ولكنها هنا تعني الانسحاب العاطفي العميق، وكبت المشاعر، والصمت المطبق عند مواجهة مشكلة صعبة تعصف بالكيان الأسري. إنها محاولة يائسة، وإن كانت لا واعية، لإدارة التوتر والقلق، ظناً من الفرد أو الأسرة أن تجنب مواجهة المشكلة سيُطفئ لهيب الصراع، أو أن كبت المشاعر سيحمي من الألم.
هذا النمط من التعامل مع التوترات، حيث تُدفن المشاكل تحت ركام الصمت وتُكبت المشاعر في أعماق النفس، يحمل في طياته ثمناً باهظاً على الصحة النفسية. فالمشاعر المكبوتة لا تتبخر، بل تتحول إلى طاقة سلبية تبحث عن منافذ للتعبير، وتُصبح كجمر تحت الرماد، يؤجج القلق المزمن والضيق الداخلي.
وفقاً لنموذج موراي بوين، أحد أبرز رواد الإرشاد الأسري، يُعد البتْر العاطفي آلية دفاعية غير ناضجة للتعامل مع المشكلات الأسرية حيث يُعتقد أن الانفصال عن مصدر التوتر سيُخفف من القلق، لكنه في الحقيقة يُعيق نمو «تمايز الذات»، وهي قدرة الفرد على الحفاظ على هويته واستقلاليته، وقدرته على حل مشكلاته.
ونرى مظاهر هذا البتْر العاطفي عندما تواجه الأسرة حدثاً صادماً كفقدان أحد أفرادها، أو إصابته بمرض مزمن، أو إن تعرض رب الأسرة إلى خسارة مادية فادحة، أو اكتشفت الزوجة خيانة شريكها، قد يتصرف هؤلاء بأسلوب غريب وهو الهروب من حل المشكلة بعدم التحدث عنها، أو التفكير في إيجاد حلول لها، أو حتى التعبير عن مكامن النفس من مشاعر غضب أو حزن أو ألم بسبب هذه المشكلة، ومن أساليب الهروب أن يجد الزوج مثلاً في كثرة تغيبه عن البيت ملاذاً من جو مشحون بالتوترات غير المعبّر عنها في البيت، أو ان تداوي الزوجة جرحها عن طريق الكبت، فتشغل نفسها بأعباء البيت، أو الانجراف وراء نمط الحياة الاستهلاكي، كصرخة صامتة تعبّر عن مشاعر مكبوتة من الغضب أو الإحباط الذي لم يجد له متنفساً آمناً داخل جدران الصمت المطبق في البيت.
وقد يصل الأمر إلى تجسّد هذا الكبت في أعراض جسدية مزمنة، كالصداع النصفي أو اضطرابات في النوم والطعام، حيث يصبح الجسد لساناً ينطق بما عجز اللسان عن قوله. وهذه السلوكيات ليست سوى مؤشرات على أن النظام الأسري يعاني من ضغط داخلي هائل، يؤثر على قدرة الأسرة على حل مشكلاتها بفعالية، وخلق مناخ داعم لأفرادها.
إن الانفصال العاطفي يُضعف الروابط الأسرية ويُعيق نمو علاقات صحية وعميقة. فالأسرة التي لا تتحدث عن مشاكلها، ولا تسمح لأفرادها بالتعبير عن آلامهم ومخاوفهم، تُنشئ بيئة خصبة للقلق المتزايد والتدهور النفسي.
ويكمن العلاج لمشكلة البتر العاطفي في الأسرة في تغيير هذا النمط وكسر جدران الصامت، وتشجيع التواصل المفتوح والتعبير الصادق، وتوفير مساحة آمنة للتعبير عن المشاعر دون خوف من الحكم أو النقد. ويتطلب هذا المسار الشجاعة والوعي، وربما تدخل مرشد أسري متخصص لمساعدة الأسرة على فك تشابك ديناميكياتها المعقدة، وتعلم مهارات التواصل الفعال. إنها دعوة للأسرة لتتعلم كيف تواجه صراعاتها بوعي وحكمة، ليتسنى لها بناء جسور من التفاهم، كي تُصبح ملاذاً آمناً للنمو العاطفي والنفسي، مما يُمهد الطريق لأفرادها من التمتع بصحة نفسية سليمة.
* أستاذة جامعية في علم النفس