"الشرق"خصص الساسة الأوروبيون بالفعل نحو 280 مليار يورو (279 مليار دولار) لتخفيف آلام ارتفاع أسعار الطاقة على الشركات والمستهلكين، لكن ضخامة الأزمة تُعرض المساعدات لخطر التضاؤل.
في ظل تقليص روسيا لإمدادات الغاز وتعطل محطات الطاقة، ارتفعت أسعار الطاقة بالجملة إلى أكثر من 10 أضعاف متوسطها الموسمي خلال الخمسة أعوام الماضية.
وتصاعدت التوترات مع استعداد موسكو لإغلاق خط أنابيب "نورد ستريم" الرئيسي، الأربعاء الماضي، لإنجاز عمليات الصيانة، ما أثار المخاوف بشأن توقف طويل الأجل من شأنه تهديد جهود تأمين الاحتياطيات الكافية للشتاء.
ركزت حكومات القارة جهودها الأساسية على خفض فواتير الطاقة، وهو نهج قد لا يطغى عليه ارتفاع الأسعار فحسب، بل قد يُفاقم الأزمة أيضاً. وهناك برامج مثل خفض الضرائب على الغاز في ألمانيا، ودعم التدفئة في بولندا دون قيود على مستويات الدخل أو كفاءة الطاقة ستدعم على الأرجح الطلب، بدلاً من كبح جماحه.
قالت جوانا ماكوفياك بانديرا، رئيسة مركز أبحاث "فورم إنرجي" (Forum Energii) ومقره وارسو، إن "الأمر يشبه إخماد النيران بالبنزين.. نحن لم نصل إلى قاع الأزمة حتى الآن".
ربما يعقد وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي اجتماعاً طارئاً لمناقشة ارتفاع الأسعار في أسواق الطاقة، في ظل حديث القادة بنبرة أكثر إلحاحاً. وتدرس جمهورية التشيك، التي تتولى الرئاسة بالتناوب للكتلة، دعوة الدول الأعضاء إلى اجتماع لمناقشة فكرة تحديد سقف لأسعار الكهرباء، حسبما ذكرت وكالة الأنباء التشيكية نقلاً عن وزير الصناعة جوزيف سيكيلا.
استنزاف الموارد
حتى الآن، تخاطر الاستجابة السياسية باستنزاف الموارد المالية للمنطقة ورفع التضخم بشكل أكثر مع تعثر الاقتصادات، وهذا قد يضغط على دافعي الضرائب لدفع الفاتورة للتمتع بمزيد من الدعم، مع توقع استمرار ارتفاع الأسعار على الأقل خلال العام المقبل.
في المملكة المتحدة وحدها، ستتكلف الحكومة نحو 110 مليارات جنيه إسترليني (129 مليار دولار) حتى عام 2023 بسبب تغطية تكاليف الطاقة الإضافية، وفقاً لدراسة أجراها معهد الحكومة (Institute for Government).
يتعين على السلطات تركيز الدعم فقط على المواطنين الأكثر ضعفاً وتعزيز الاستثمار في تدابير الكفاءة للشركات والمستهلكين الأكثر ثراءً، بدلاً من توزيع الأموال على نطاق واسع، بحسب بيتر فيس، وهو مسؤول سابق رفيع المستوى في الاتحاد الأوروبي.
على الرغم من أن سياسات مثل خطة اليونان لتغطية 94% من الزيادة في فواتير الكهرباء في سبتمبر يسهل ترويجها للناخبين، فإن خفض الاستهلاك يتطلب خيارات لا تحظى بشعبية، لكن قد توجد قلة من البدائل.
قال "فيس"، الذي يشغل حالياً منصب كبير مستشاري شركة الاستشارات "رود بيديرسون ببليك أفيرز" (Rud Pedersen Public Affairs Consultancy) ببروكسل: "يجب أن يكون توفير الطاقة هو الأولوية، خاصة أن ارتفاع أسعار الطاقة بحدة سيسبب ألماً حقيقياً، وما زالت الحكومات بعيدة عن تقديم استجابة مناسبة".
الحالة الإسبانية
ناقش المُشرعون الإسبان إحدى المبادرات القانونية النادرة في أوروبا للحد من الاستهلاك في يوم الخميس. وتنص القواعد على أنه لن يُسمح لمعظم الشركات بتبريد مساحاتها الداخلية عند درجة حرارة أقل من 27 درجة مئوية (81 درجة فهرنهايت) في الصيف، أو التدفئة فوق 19 درجة مئوية (66 درجة فهرنهايت) في الشتاء.
تم وضع هذه السياسة بموجب مرسوم من رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز الشهر الماضي، لكنها تتطلب موافقة البرلمان لتصبح قانوناً. ويعتزم حزب المعارضة الرئيسي معارضة مشروع القانون الذي يتضمن قيوداً على الإضاءة الخارجية، واصفاً إياه بأنه عبثي ويهدد السياحة والسلامة العامة. ورغم أن الحزب ليس له حق التصويت لعرقلة الإجراء، إلا أنه يزيد من المخاطر بالنسبة للائتلاف الحاكم.
بدلاً من وضع تشريع لخفض الاستهلاك، يناشد قادة أوروبا بشكل أساسي الأفراد للتضامن ويوصون باتخاذ إجراءات طوعية مثل خفض منظمات الحرارة والاستحمام بماء بارد، وفي وقت قصير.
قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بداية اجتماع مجلس الوزراء الأربعاء الماضي: "حريتنا، ونظامنا القائم على الحرية له تكلفة.. وقد يستلزم الأمر تقديم تضحيات عندما نحتاج إلى الدفاع عن النظام في بعض الأحيان".
رغم أن حكومة فرنسا خصصت سريعاً عشرات المليارات من اليورو لحماية الأسر والشركات، فإنها بدأت مؤخراً محادثات مع سلطات محلية ومجموعات تجارية بشأن خطة تستهدف خفض الطلب بنسبة 10% على مدى عامين.
مشهد مضطرب
تشير الاستجابة لأزمة الطاقة إلى المشهد السياسي غير المستقر في المنطقة، إذ يفتقر قادة عدة للدعم اللازم لاتخاذ قرارات صعبة. فقد خسر "ماكرون" أغلبيته المطلقة في الجمعية الوطنية، وتراجع حزب المستشار أولاف شولتس للمركز الثالث في استطلاعات الرأي الألمانية، وتنتظر إيطاليا انتخابات مبكرة بعد تخلي الحلفاء عن رئيس الوزراء ماريو دراغي، كما يختار المحافظون البريطانيون خليفة بوريس جونسون.
مع توجه المنطقة بالفعل نحو الركود، يهدد الفشل في احتواء أزمة الطاقة بإثارة اضطرابات اجتماعية وسياسية إذا أدت أزمة الإمدادات إلى انقطاع الكهرباء وبرودة المنازل هذا الشتاء، كما أنه قد يضعف الدعم العام للتحركات الرامية لمعاقبة الكرملين على حربه في أوكرانيا.
في بولندا، حيث كانت الحكومة من أكثر الداعمين لجهود كييف لصد القوات الروسية، يلقي 34% من الناخبين باللوم على الحكومة الحالية في ارتفاع التكاليف، بحسب استطلاع أجرته "يونايتد سيرفيس" (United Surveys) الشهر الماضي.
قبل انتخابات الشهر المقبل في السويد، تزايد القلق بشأن أسعار الكهرباء لدرجة أنه احتل قمة الأجندة السياسية، حيث تحاول الأحزاب المزايدة على بعضها البعض باتخاذ تدابير للتخفيف من ارتفاع التكاليف.
من المقرر أن يصبح برنامج الدعم الفاشل مشكلة في الاقتراع المقبل في الدنمارك، فقد اضطرت حكومة رئيسة الوزراء ميتي فريدريكسن التحقيق في سبب حصول بعض الأشخاص على منحة قدرها 6000 كرونة (800 دولار) دون أن يكونوا مؤهلين لها، بينما عاد السكان المؤهلون بأيادٍ خالية.
احتدام المنافسة
بالنسبة لإيطاليا، تنازع رئيسا أكبر حزبين حول فرض قيود على أسعار الطاقة في أول نقاش عام بينهما قبل انتخابات 25 سبتمبر. وأيدت جيورجيا ميلوني، المنافس الرئيسي لمنصب رئيس وزراء إيطاليا، وضع سقف مقترح لأسعار الغاز على مستوى أوروبا.
يكاد يكون من المستحيل على المنطقة استبدال روسيا، التي كانت تاريخياً أكبر مورد للغاز في الاتحاد الأوروبي وتغطي نحو 40% من الطلب، على المدى القصير. كما ساعدت شحنات الغاز الطبيعي المسال في ملء الاحتياطيات، لكن المنافسة ستشتد.
ألغى مشغل غاز طبيعي مسال روسي شحنة متجهة إلى عميل آسيوي واحد على الأقل بسبب مشكلات السداد، بالإضافة إلى تأخير توقيع العقود المعدلة، وفقاً للتجار المطلعين على الأمر. ويعد أي تعطيل لشحنات الغاز الطبيعي تهديداً بتفاقم أزمة الإمدادات وإشعال حروب العطاءات بين الدول الأوروبية والآسيوية.
كانت صعوبات تخفيف قيود الإمداد واضحة في النمسا، إذ وقعت خطط إحياء مصنع فحم متعثر في حالة فوضى. ورفضت أحزاب المعارضة الإجراء حتى تضمن الحكومة أن دافعي الضرائب لن يتحملوا تكاليف إضافية لهذه الخطوة.
تحركات ألمانيا
بصرف النظر عن جهود إسبانيا، بدأت ألمانيا أيضاً في معالجة قضايا الطلب. ووافق مجلس الوزراء الألماني برئاسة شولتس، يوم الأربعاء، على تدابير تستهدف خفض استهلاك الغاز بمقدار الخمس في فصلي الخريف والشتاء. هذه التحركات تشمل حظر تدفئة حمامات السباحة الخاصة وإلغاء تدفئة بعض المناطق في المباني العامة وخفض الحد الأدنى لدرجة حرارة المكاتب إلى 19 درجة مئوية.
قال "شولتس" في زيارة أجراها لكندا الأسبوع الماضي، حيث مارس ضغطاً بشأن البنية التحتية اللازمة لتصدير الغاز الطبيعي المسال إلى ألمانيا: "ما نشهده الآن هو عاصفة مثالية" من الأزمات المتداخلة. وأضاف: "تعلمون جميعاً ما أتحدث عنه: حرب روسيا العدوانية على أوكرانيا، وأزمة الطاقة التالية لذلك، ونقص الغذاء العالمي، والتضخم".