د. أحمد حسين




* تميز لنموذج مملكة البحرين في ظل التوجهات العالمية


* إطلاق مسمى "كبار المواطنين" ضمن التوجهات الوطنية


تحظى الفئة السكانية من كبار السن باهتمام وعناية خاصة من قبل العديد من الحكومات التي تسعى لتعزيز صحة هذه الفئة الكريمة والمحافظة على مستويات متقدمة من إدماجها ومشاركتها في مختلف الميادين الاجتماعية والاقتصادية والتنموية. هذا ويشهد العالم تحولاً ديمغرافياً غير مسبوق نحو شيخوخة السكان، حيث تشير المعلومات المقدمة من قبل منظمة الصحة العالمية بأنه عالمياً سيرتفع عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 عاماً أو أكثر من 1 مليار لعام 2020 إلى 2.1 مليار لعام 2050، وستصل نسبتهم إلى 22٪ من إجمالي سكان العالم. وقد ساهمت عدة عوامل منها جودة الرعاية الصحية، تكافؤ الفرص، مستويات الصحة العامة والأنظمة الغذائية على نماء ظاهرة تشيخ السكان، وبلا شك أن هذا سيفرض العديد من التحديات على المجتمع، شاملاً ذلك الأسر القائمة على رعاية كبار السن وأيضاً على العديد من المؤسسات والأنظمة المسؤولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية والصحية والتأهيلية سواء في القطاعات الحكومية أو الأهلية. وبالنظر إلى تقارير الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية شهدت مملكة البحرين تغيرات ديمغرافية نتج عنها ازدياد في نسبة كبار السن على مدى العقود الماضية. وتشير إحصاءات هيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية أنه في عام 2020 بلغ نسبة عدد السكان المسنين لمن هم فوق 60 سنة بمملكة البحرين 5.7% من إجمالي عدد السكان، وبتقديرات الأمم المتحدة ستبلغ النسبة 10.8% بحلول عام 2030، وستزداد إلى 23.7 % عام 2050. يكمن وراء هذه الزيادة تدني معدلات الوفيات وزيادة في معدلات متوقع الحياة عند الولادة وهذه التغييرات تدفع لزيادة أعداد فئة كبار السن، وتستند هذه الظاهرة في مملكة البحرين أيضاً على ما يحدث من تطور متنامٍ في مجالات الاقتصاد والتعليم وجودة خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية. الجدير ذكره أن مملكة البحرين تمتلك سجلاً حافلاً وزاهراً بالعديد من المنجزات نظير نجاح البرامج والمبادرات في مختلف الجوانب الاجتماعية والصحية والمعيشية التي عززت من جودة الحياة لكبار السن وخلقت تجربة نوعية وريادية في الاهتمام والرعاية بهم. ولذا لابد من تسليط الضوء على جانب من ذلك.

هذا وبناءً على قراءة التوجهات العالمية للتشيخ الصحي وبناءً على فهم الغاية الحقيقية من صلب مفهوم المسؤولية الاجتماعية، يمكن الإشارة بأنه تتبلور التوجهات نحو أولاً: الحفاظ على التشيخ الصحي والنشط بما يسهم في تقليص الأعباء المحتملة على أنظمة الرعاية الصحية، وثانياً: الاستثمار الأمثل في إمكانات وقدرات كبار السن وتهيئة أرضية متجددة بالفرص الداعمة لتمكين كبار السن مجتمعياً واقتصادياً، وثالثاً: تطبيق مفاهيم واستراتيجيات المسؤولية الاجتماعية بمنهجية شمولية تجاه ما يعزز جودة الحياة لكبار السن.

ويمكن تسليط الضوء على مقومات التوجه الأول "التشيخ الصحي" في المحاور الأربعة التالية: المحور الأول: المسؤولية الذاتية وهي مسؤولية الفرد تجاه نفسه. وفي محيط التشيخ الصحي لا يقتصر إطارها فقط بالالتزام بالتوصيات والوصفات الطبية عند حصول المرض أو المعاناة منه بل أن الفرد وإن كان في أوج صحته ومن منطلق مسؤوليته الذاتية لا بد أن يؤمن إيماناً تاماً بأهمية دوره في تنمية ما يملك من وعي ومعارف تعزز من الحفاظ على صحته إلى جانب انتهاج السلوكيات والتصرفات التي تتوافق مع أسلوب الحياة الصحي والوقاية من الأمراض المزمنة. لذا نجد أن في مملكة البحرين على سبيل المثال لا الحصر أن خدمات الرعاية الأولية ومنظومة تعزيز الصحة دأبت على تقديم البرامج التثقيفية والتعليمية بما يعزز الوعي والمسؤولية الذاتية للأفراد. المحور الثاني: تقديم الرعاية الصحية المثلى لكبار السن وذلك ما يمثل جوهر مسؤولية المؤسسات الصحية التي تعني بالخدمات الصحية والتأهيلية التخصصية للفئة العمرية من الكبار، ولذا يكون التركيز أولاً على الحملات والبرامج الوقائية ومنها التطعيمات والتثقيف الصحي ومن ثم أهمية الاستجابة السريعة لمختلف احتياجاتهم الصحية إلى جانب التقييم الشامل والدوري لحالتهم من النواحي النفسية والجسمانية والفسيولوجية والوظيفية والاجتماعية. ولقد امتازت مملكة البحرين بتوفر منظومة صحية متكاملة متضمنة القطاع الحكومي والقطاع الخاص وهي تعني بتقديم العديد من الخدمات الصحية الشاملة والمنظمة لهدف ضمان صحة السكان بجميع فئاتهم العمرية وسهولة الوصول للرعاية الصحية، ولعل أبرز المؤشرات هو ما كشف عنه تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2006 أن البحرين تتمتع بمستوى متقدم من الصحة، وأن أهداف "الصحة للجميع" تم تحقيقها في أوائل التسعينيات. وموازياً لذلك تعاظم حجم الاستثمار في قطاع الرعاية الصحية الطويلة والتخصصية لعلاج الأمراض المزمنة. المحور الثالث: التصدي لمشاكل ومخاطر الأمراض المزمنة. لذا تعددت المبادرات في هذا الجانب وبمشاركة المنظمات الأهلية المهتمة بصحة كبار السن نحو تعزيز أنماط وأساليب الحياة الصحية ومن جهة أخرى تتوفر وحدات رعاية متنقلة تسهم في تعزيز انسيابية وصول الرعاية للأفراد ذوي العرضة للنوبات الحادة، إلى جانب تفعيل آليات ذكية تسهم في التشخيص المبكر ورصد لمعدلات الانتشار والآثار السلبية لمختلف الأمراض المزمنة الشائعة. ويرتكز المحور الرابع على مسألة إذكاء وعي المجتمع بالتشيخ الصحي وهو بالحقيقة ما نال توجهاً بحد ذاته في استراتيجية التشيخ النشط والصحي ورعاية المسنين في إقليم شرق المتوسط 2006 – 2015 لمنظمة الصحة العالمية وحيث تم عقد المشاورة الإقليمية لمسودة هذه الاستراتيجية في المنامة أبريل 2005. فموضوع إذكاء وعي المجتمع بالتشيخ الصحي يلاقي أهمية متنامية نظراً لما يشهده العالم بشكل متسارع من تحولات ومتغيرات معيشية واقتصادية ورقمية تتطلب تواكباً من قبل صناع القرار وقياديي المؤسسات الاجتماعية والصحية للارتقاء بأوضاع كبار السن ضمن قيم المسؤولية الاجتماعية وخلق منظومة دعم تشاركية بين مختلف مكونات المجتمع بمنهجية توفير المعرفة واستثمار التطور التكنولوجي توافقاً مع المستقبل. ولعل أبرز ما يعكس الوعي والنظرة الاستراتيجية لصناع القرار بمملكة البحرين لهذا الجانب هو اتخاذ خطوات فعلية من جانب التخطيط والتفعيل للمدن الصحية التي تدعم ببنيتها التحتية الصحة العامة للناس وتوفر بيئة لممارسة النشاط البدني وتحسين الصحة النفسية.

وكما ذكرنا مسبقاً بأن التوجه الثاني للارتقاء بالمسؤولية الاجتماعية تجاه صحة كبار السن يكمن في الاستثمار الأمثل في إمكانات وقدرات كبار السن وتهيئة أرضية متجددة بالفرص الداعمة لتمكين كبار السن مجتمعياً واقتصادياً. ويرتكز جوهر هذا الهدف أولاً في تقدير وإبراز مساهمات الكبار التي أسهمت في بناء النهضة وتربية النشء وتنمية المجتمع. حيث يعتبر هذا المبدأ منطلقاً لإشراك فئة الكبار وإناطتهم أدواراً قيادية ومكانة لصنع القرار في مختلف الأوجه المتعلقة بحقوقهم والامتيازات الحياتية. وفي هذا الصدد تتعاظم المسؤولية الاجتماعية التي ينبغي أن تتبناها منظمات المجتمع المدني ومختلف المؤسسات بقطاع الأعمال نحو المزيد من الاستفادة من الخبرات وزخم التجارب الحياتية لدى كبار السن، وبالمقابل لا بد من السعي لتدريبهم في مجالات التكنولوجيا الحديثة وبناء جسر من التواصل المعرفي مع الجيل الأحدث سناً. وتمتاز مملكة البحرين بنشأة العديد من المنظمات الأهلية المهتمة بشؤون كبار السن والتي لديها جسور تنسيق وتعاون لتنفيذ مبادرات تمكين كبار السن مع الجهات الحكومية القائمة على رعاية هذه الفئة الكريمة. في التوجه الثالث والمعني بتطبيق مفاهيم واستراتيجيات المسؤولية الاجتماعية بمنهجية شمولية تجاه ما يعزز جودة الحياة لكبار السن، تتعدد الأبعاد ويتسع الأفق بحجم مضمون مصطلح المسؤولية الاجتماعية المنطوي على الجانب المجتمعي، الاقتصادي، والبيئي والثقافي والأخلاقي، وقد تم التطرق لبعض من هذه الجوانب ولكن إيجازاً لا بد من التأكيد على إبراز المسؤولية الاجتماعية تكنولوجياً وهو ما يدلل على أهمية السعي لتفعيل نطاق أوسع لأنظمة الذكاء الاصطناعي لخدمة كبار السن في مجال الصحة والتنقل والاتصال وتدشين تطبيقات الصحة الرقمية واستخدام الروبوتات، فعلى سبيل المثال في اليابان، رجل آلي "روبوت" أطلق عليه اسم بيبر مطور من شركة "سوفت بانك" اليابانية يقوم بقيادة مجموعة من كبار السن للقيام بالتمارين الرياضية. وفي الجانب الأخلاقي تبرز المسؤولية الاجتماعية في مكافحة التمييز على أساس السن، حيث إن أحد أوجه هذه الظاهرة هو اعتبار كبار السن عبئاً على المجتمع أو أقل قيمة وذلك مما يتسبب بتداعيات سلبية كالعزلة ولاكتئاب والعرضة للاستغلال، علاوة على كون ذلك منافياً للقيم الإنسانية والأعراف المرتبطة بالحياة الكريمة والكرامة لكبار السن. ومن الأوجه المضيئة في البحرين، أنه في عام 2019، تم إطلاق مسمى "كبار المواطنين" ضمن التوجهات الوطنية، حيث يعكس هذا الإيمان الصادق بضرورة تعزيز مكانة كبار السن وتقدير دورهم الإيجابي في تنمية وبناء المجتمع، ويؤكد الاحترام لمسيرتهم وعطائهم وخبرتهم في الحياة. ختاما أحد أهم المنهجيات العملية لتعزيز المسؤولية الاجتماعية لدى الافراد والمؤسسات تجاه جودة حياة كبار السن هي استلهام التجارب والنماذج الناجحة وتحليلها وإيجاد فرص التعلم منها، وليس عالميا فحسب بل أيضا لدينا بالمنطقة العربية وبالخصوص محليا العديد من قصص النجاح والمبادرات المميزة والموثقة والتي يمكن مشاركتها مع دول العالم والمجتمعات الخارجية وتعزيز مدى الاستفادة منها.

* الأمين المالي بجمعية أصدقاء الصحة