القدس المحتلة - عزالدين أبوعيشة

وقف أمام مِرآة منزله، حمل قبعته الحمراء بيده ووضعها على رأسه، ولبس زيّه المقدس المخصّص، تأكّد من أناقة نفسه جيداً، قبل أنّ يغادر منزله وطبلته على كتفه، ومضاربها لا تفارق يده، ودّع أهل بيته قبل أنّ يتجول في أزقة وحارات البلدة القديمة لمدينة القدس. في شوارع البلدة القديمة وقبل ساعات الفجر، يخرج خالد بدر كلّ يوم يقرع الطبل، ويصدح بصوته بعباراتٍ من التراث الفلسطيني، ينشد الأهازيج لأجل القدس عاصمة فلسطين، ويغني لكل منزلٍ يمشي من جواره، يطلب منهم الاستيقاظ للسحور.

يحاول الشاب العشريني أن يعيش وأهالي القدس أجواء رمضان، يسعون للاستمتاع بأصوات المسحراتي الذي لم يغب عن شوارع المدينة في أيّ رمضانٍ مضى، فالطقوس في القدس لم تعد كما كانت منذ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنّها عاصمة لدولة الكيان الإسرائيلي، ونقل سفارة بلاده لها.



أجواء المدينة العتيقة باهتة، أضواؤها غادرت الحارات بحزنٍ بسبب ضغوط المستوطنين، الذين ينغصون الحياة على كلّ مقدسي، حتى إنّهم يحاولون منع قرع الطبول في زقاق البلدة، بذريعة أنّها تسبب الإزعاج.

يقول خالد بدر في حديثه لـ"الوطن": "أغادر منزلي مودعاً أهلي، فلا أعرف إن كنت سأعود، أو أنّ سلطات الاحتلال ستقوم باعتقالي، أخرج حاملاً روحي مع ضارب طبلتي، ولكني مُصرّ على ممارسة عادات رمضان حتى لو كره المستوطنون".

خالد وغيره من المسحراتيه الذي يعيشون في القدس، يتعرضون لبلاغات يومية من المستوطنين، تحت حجة أنّ قرع الطبول في أوقات الليل يسبب الإزعاج لهم، وهكذا يحاول المستوطن أنّ يعكر صفو رمضان على كلّ مقدسي.

يضيف خالد: "يحاول المستوطنون إفساد أجواء رمضان علينا، عن طريق إغلاق طرق، أو اعتراض الناس، وكثيراً ما يشتكون للشرطة عن وجود ضوضاء في الحارات، يقصدون من ذلك المسحراتي".

يتابع وصوته مخنوق: "وصلت القدس إلى مرحلة حزينة، فيها وجع كثير عندما يفقد رمضان رونقه، على ما يبدو أنّ تهويد القدس وصل ذروته، أحاول أن أقاوم بطريقتي الخاصة عن طريق الإصرار على ممارسة عاداتي في رمضان تسحير الناس".

خالد يعتاد منذ عشر سنين على السير كلّ ليلة في رمضان في شوارع القدس، لكن هذا العام يخشى على نفسه أن يكون ضحية الاحتلال، كما فعل مع سبعة غيره، تم اعتقالهم واقتيادهم للتحقيق، واحتجازهم أياماً، لأنّهم مسحراتيه فقط.

لاتزال قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل مسحراتية البلدة القديمة في القدس، بتهمة إزعاج المستوطنين، خلافاً لممارسات عدّة، ووسائل تضييق أخرى عليهم، مثل إغلاق محيط ومدرجات باب العامود، أحد أهم أبواب القدس العتيقة بالحواجز الحديدية.

ولم يقتصر تضييق الاحتلال على ذلك، بل أيضاً منع مرور الفلسطينيين الذكور أقل من 40 عاماً من الوصول إلى المسجد الأقصى لأداء الصلاة في أيام الجمعة، وتعزيز وجود قوات الشرطة في أنحاء المدينة المقدسة، في خطوات متتالية لإفساد أجواء رمضان.

يحاول المستوطنون من خلال بلاغاتهم إيقاف صوت بهاء نجيب الصادح بالعبارات المعتادة "يا نايم وحد الدايم.. يا نايم العمر مو دايم". يقول بهاء عن ظروف اعتقاله: "فوجئت عند الساعة الثانية والنصف فجراً بقوة إسرائيلية أوقفتني ونقلتني لمركز الشرطة، بينما كنا نرتدي الملابس الخاصة بالمسحراتية ومعنا الدفوف".

وأضاف لـ"الوطن": "بقيت أنتظر حتى الساعة الثامنة صباحاً دون التحقيق ودون أن نتمكن من تناول طعام السحور أو شرب المياه، ثم أبلغنا بأن هناك شكاوى ضدنا من قبل المستوطنين الذين استولوا على أحد المنازل في القدس بالقوة من أننا نشكل إزعاجاً لهم خلال عملنا في تنبيه المقدسيين للسحور".

ويعاقب كلّ مسحراتي يتمّ احتجازه إمّا بالغرامة المالية الكبيرة التي تصل في بعض الأحيان إلى 500 دولار أمريكي، أو بالسجن لمدة 10 أيّام، أو بتحرير مخالفة بلدية له، ومن يصر على الخروج لتنبيه المقدسيين للسحور مرّة أخرى تضاعف له العقوبة.

ولا يقتصر الأمر على اعتقال المسحراتي بل يعتاد إلى التهديد، ومرات كثيرة يقوم الجيش برش غاز الفلفل تجاههم، وضرب بعض الفتية المرافقين لهم، وكثيراً ما يقومون بشتمهم بكلمات بذيئة.

وبعد تتبع مراسل "الوطن" للأمر، وجد أنّ قوات الاحتلال اعتقلت خلال 20 يوماً ما يقارب 17 مسحراتياً معظمهم يلبسون الزيّ الفلسطيني "القمباز والحطة"، فيما علمت "الوطن" من مصادر مقدسية أنّ "سلطات الاحتلال أفرجت عن نحو 4 منهم، مقابل كفالة مالية، ومخالفة بلدية، وتوقيع تعهد بعدم إيقاظ الناس وقت السحور".