"الأمم تصهرها المحن، فتخرج منها بمعدن أصفى بعد ضراوة الحريق .. هذه قاعدة عامة أثبتتها شواهد تاريخية عديدة (م. ج. الأنصاري – من مقالة مأساة أمة في مأساة شاعر)"، وتجارب لم تقل قسوة أو مرارة بالمقارنة بالكوارث المتعاقبة على أمة العرب.

وبحسب تلك التجارب التاريخية لغيرنا من الأمم، فقد نجحت محارقهم – ولا أقصد فقط المحرقة اليهودية على يد النازية - في صهر وإذابة شوائب الإذلال والمعاناة لإعادة تشكيل ذاتهم الحضارية، مسجلين بذلك دروساً بليغة في قوة الصبر وصلابة الإرادة للانتصار في معركة الحضارة والتقدم التي هي "أم المعارك"، كما يصفها المفكر البحريني الأنصاري.

مناسبة هذا الحديث، هو التخبط والدوران في حلقة مفرغة لسبل الخروج من "المحارق الرهيبة" للذات العربية، واستمرار لأزمة غير محتملة وغير عادلة تشل الإرادة والرغبة في النجاة، فكم من مبادرة للسلام طُرحت؟ وكم من القرارات صَدرت؟ وكم من خطة انقاذ دفنها النسيان في أدراج الزمان؟

وبعيداً عن السوداوية والتشاؤم مع استمرار العجز والجمود أمام الكوارث، لا يمكن أن ننكر المحاولات الكثيرة التي حملت علاجاً ناجعاً وصالحاً للتطبيق، اليوم قبل الغد!

ونذكر هنا، أهم مبادرتين عربيتين، وبقيادة سعودية، الأولى هي "خطة فهد" (1982م) نسبة إلى الملك فهد بن عبد العزيز، ورفضت مرة بسبب الخلافات العربية حولها، وقبلت لاحقاً بعد عدة أشهر، إلا أنها جُمدت مع تزامن الغزو الإسرائيلي للبنان في ذات السنة، وما أشبه اليوم بالبارحة.

أما الثانية، فقد كانت الخطوة التاريخية التي أقدم عليها الملك عبد الله بن عبد العزيز بعد مرور حوالي عشرين عام على المبادرة الأولى (2000م)، وتمثلت في "المبادرة العربية للسلام"، وتم اعتمادها في قمة بيروت 2002م على وقع أحداث 11 سبتمبر، وانتفاضة الأقصى، وانسداد الطريق أمام حل الدولتين.

والجميع متفق بأن مبادرة السلام العربية صالحة، حتى اللحظة، بما تطرحه من حلول جذرية لسلام عادل وشامل يراعي مصالح كافة الأطراف، وهي، باختصار، تهدف لإنشاء دولة فلسطينية على حدود 1967م وعاصمتها القدس الشرقية، وتطالب بعودة اللاجئين، والانسحاب من هضبة الجولان، مقابل العلاقات الكاملة مع إسرائيل، وعلى قاعدة "الأرض مقابل السلام".

وعلى وجاهة ما تطرحه المبادرة من حل منطقي ونهائي وعادل، إلا أن درجة تأثيرها على الواقع العملي غير منظورة بالرغم من صلاحيتها، ويبقى تنفيذها متوقف لأسباب متشعبة وكثيرة، لعل أولها التحولات الجيوسياسية التي لم تكن قائمة ولم تُأَخذ في الحسبان عند وضع بنود المبادرة العربية، كالتمدد الإيراني الذي فاق التوقعات بأطماعه التوسعية لـ "احتلال" الدول المستهدفة، التي أصبحت، وبتقادم الزمن، ولايات وكيانات تابعة للمستعمر الجديد، ومسلوبة السيادة والإرادة!

وأضف إلى ما تقدم، ثبات المواقف الغربية، مع فيتو صاعد وفيتو نازل، بالاصطفاف مع إسرائيل في السراء والضراء، وهي مواقف تزداد ثباتاً مع تقلبات العلاقات العربية – العربية من جهة، وغياب التوافقات الفلسطينية – الفلسطينية من جهة أخرى.

ولست هنا في معرض الحديث عن تفصيلات تلك الاختلافات أو الخلافات بالأحرى، على أهمية "المصارحة قبل المصالحة"، إلا إن كل ما تقدم من أسباب، وباختصار شديد، يبعدنا عن جادة الحل المأمول لمبادرات السلام، بمطالباتها المنطقية من الناحية النظرية، أما عملياً فالمسألة تشبه قصة "حانا ومانا"، حيث ضاعت لحانا وآمالنا.

فإذن، أين هو سبيل الخروج من هذا المأزق، وترسانة القوى المتحاربة تعمل جاهدة على تعطيل أي مسعى جاد على طريق المفاوضات وطريق المهادنات، وتسد تماماً طريق التفاهمات والأرضيات المشتركة لحلحلة ما يمكن حلحلته، وما وراء الأكمة ما وراءها، من محاولات بشعة لجر المنطقة لمنزلق لن يحمد عقباه.

فإذن، لا مفر ولا خيار لدول المنطقة، مع هذا التصعيد "الاستعراضي"، لإيران وإسرائيل، الذي شتت انتباه العالم عن القضية الأصلية وصرف الأنظار نحو ساحة صراع أكثر علانية وأشد خطورة، إلا بالعودة، وباستنفار كامل، لإحياء المبادرة العربية للسلام، إما بإصدار وثيقة تكميلية تواكب الأحداث، أو خارطة طريق تنفيذية، أو لنسميها ما نسميها، بشرط أن يُحشد لها الدعم اللازم، دولياً وإقليمياً، وأن تتسع مظلة شراكاتها، بتوافقات سياسية تتسق مع متطلبات المرحلة، لتنطلق، أولاً، بهدنة ضبط النفس ووقف كل أشكال النزاع، انتقالاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر خطة طوارئ إنسانية، وصولاً لمستحقات عودة الأمل والعمل في قطاع غزة وإعمار وإدارة الدولة الفلسطينية، بدعم عربي، عندها، ولنأمل ذلك، لن يكون هناك مخرج إلا بالاعتراف بها كدولة "متكاملة الأركان".. لها ما لها، وعليها ما عليها.

* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة