ما أعظمها من عبادة يؤديها الإنسان المسلم -أو حتى غير المسلم- وينال عليها أجراً لا يعرف مقداره إلا الله سبحانه وتعالى.. إنها عبادة جبر الخواطر تلك العبادة مفتوحة النسك فليس لها صفة في التعبّد وليس لها حدود في الأداء.

وهذا الأمر الغريب في تلك العبادة هي أن الله تركها لخيال العبد، فكل إنسان يستطيع أن يُبدع في أدائها، ويكون الأجر على قدر النية وحجم الأداء، ولو أن بعض الأمور قد يفعلها المرء بأقل التكاليف المادية والجسدية، ويُجزى عنها أعظم الجزاء عند الله، وأخرى تأتي من مجرّد موقف أو قرار يُرى أثره على الناس، ويأتي أجره على قدر نطاق ذلك الأثر.

هذه الخواطر جاءتني متتالية ومتقطعة منذ أن شارفنا نهاية شهر رمضان الفضيل وإلى اليوم، وسبب التتالي والتقطع فيها أن أحداثاً شهدتها مملكة البحرين خلال تلك الفترة تُحسب ضمن نطاق جبر الخواطر.

فلقد أسهب كثير من الكتاب والمحللين في شأن العفو الملكي الأخير عن مجموعة كبيرة من المحكومين، وتمّت مناقشة الأمر من جوانب كثيرة كان أبرزها البعد الإنساني والاجتماعي لمثل هذا قرار، وحتى بعضهم قام بتحليله سياسياً وأخذ كلٌّ منهم يحاول تفسيره كما يحلو لضميره، ولا أريد الدخول في ضمائر الناس ولكنها المشاهدات والمتابعات لردود الأفعال هي التي أجبرتني على ذكر ذلك.. لكن كلّ المحللين والخبراء وذوي الشأن في بحث هذا القرار -وقرارات أخرى جاءت من بعده- لم ينظروا إليه من زاوية جبر الخواطر.

نعم إن هذه القرارات -ولو أنها ملكية سامية- إلا أنها في نظري تأتي في سياق جبر الخواطر، ولا أستطيع هنا أن أتأوّل على صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم، حفظه الله ورعاه، لكني كتبت مؤلَّفاً سابقاً عن جلالته حفظه الله، بعنوان "ملك الإنسانية"، وكنت أعتقد حينها أنني أنجزت حصر كلّ ما يتعلق بإنسانية جلالته رعاه الله، فيأتي الزمن ليُثبت لي عجزي الكامل والمستمر عن رصد وتحليل تلك الشخصية الفريدة العظيمة.

كم نفس جُبرت خواطرهم منذ تولّي جلالته مقاليد الحكم في البلاد. وكم يأس تحول إلى أمل وتفاؤل. وكم حجم هذا الجبر للخواطر الذي شهدناه في عيون المُفرج عنهم وأهاليهم وأصدقائهم وجيرانهم.. ومن لا يمتّ لهم بصلة.

والله إن جلالة الملك المعظم حفظه الله في هذا اليوم قد جَبَرَ خواطر أناس لم يكونوا يعرفون أسماء هؤلاء المشمولين بالعفو، وذلك حين فرحت البحرين بهذا القرار الحكيم، وقد كنت أنا منهم عندما شاهدت الصور ومقاطع الفيديو، وكأنما من خرجوا هم أحبائي وإخواني وأصدقائي.

قد يرى البعض في هذه القرارات الإنسانية أبعاداً سياسية، إلا أن جبر الخواطر الذي تحمله تلك القرارات يطغى على كل بُعد آخر ولو كان حقيقة، فيكفي جلالة الملك المعظم أجره عند الله عظيم من جبر الخواطر... نسأل الله أن يجعله دائماً وأبداً في ميزان حسناته وأن يمنحه الصحة والعافية وطول العمر ذخراً وسنداً لأبناء هذا الوطن الأوفياء.

* قبطان - رئيس تحرير جريدة "ديلي تربيون" الإنجليزية