تُعدّ البحرين، منذ فجر التاريخ، موطناً زاخراً للّؤلؤ، تلك الأحجار الكريمة المتلألئة التي سحرت البشرية بجمالها وبريقها. فموقع البحرين الجغرافي المميز في الخليج العربي، مع شواطئها الممتدة والمياه الضحلة والدافئة، كانا عاملاً أساسياً في ظهور مهنة صيد اللؤلؤ واستمرارها لقرون طويلة. حيث أدّى اللؤلؤ دوراً محورياً في حياة سكان البحرين عبر التاريخ، وشكّل مصدراً رئيساً للثروة والازدهار، وارتبط ارتباطاً وثيقاً بثقافة المنطقة وتاريخها وحضارتها العريقة.

صيد اللؤلؤ: العمق التاريخي

تمثّل مهنة صيد اللؤلؤ إحدى أقدم المهن والأنشطة الاقتصادية في إقليم البحرين، حيث تمتد جذورها لآلاف السنين، فقد كانت سواحل المنطقة مرتعاً لأنواع فريدة ونادرة من محار اللؤلؤ الثمين، وقد وصف شعراء المنطقة في العصر الجاهلي مثل الأعشى، تفاصيل هذه العملية في أشعارهم، مؤكدين على أهمية الغوص، كما وصفوا جمال ونضارة اللؤلؤ، ممّا يدل على شهرة هذه المهنة. كما حظيت بتدوين جملة من المؤرخين والجغرافيين والرحالة فقد ذكر الجغرافي بليني (ق:١م) أن تايلوس، الاسم القديم للبحرين، تشتهر بعدد كبير من محار اللؤلؤ، وذكر المسعودي: «وللغواص واللؤلؤ وعلاماته وحيوانه أخبار عجيبة».


وقد اعتمد أهالي البحرين على هذه الحرفة كمصدر رئيس للرزق والتجارة، غير أنّ استخراج اللؤلؤ لم يكن مهمة سهلة؛ بل كانت مهنة شاقة ومحفوفة بالمخاطر، تتطلب مهارات استثنائية وقدرة فائقة على التحمّل برع بها الغواصة البحرينيون الذين نزلوا إلى أعماق الخليج بحثاً عن كنوز البحر، كما ساعد الموقع الجغرافي المتميز للبحرين في قلب طرق التجارة العالمية على تعزيز صادرات اللؤلؤ البحريني إلى أسواق العالم.

اللؤلؤ البحريني: الأهمية الحضارية

أسهم اللؤلؤ في تكوين البناء الحضاري للبحرين من خلال تنوّع الآثار التي تركها في مختلف المجالات، ففي الجانب الاجتماعي والثقافي ارتبط استخراج اللؤلؤ بالهوية والتقاليد الثقافية لأهل البحرين. فكان صيد اللؤلؤ نشاطاً اجتماعياً مهماً وجزءاً من الحياة اليومية للناس. وقد تطوّرت عبر الأجيال تقنيات وممارسات محلية خاصّة باستخراج اللآلئ، ممّا أضفى عليها طابعاً ثقافياً فريداً. كما كان لها تأثير كبير على العادات والفنون والموسيقى المحلية.

وفي الجانب الاقتصادي والسياسي وبفضل موقعها الاستراتيجي، تحوّلت البحرين إلى مركز تجاري مهم في المنطقة. كما ساهمت تجارة اللؤلؤ في إقامة علاقات تجارية بين البحرين والمناطق المجاورة. وقد أكسبت هذه التجارة حكام البحرين نفوذاً سياسياً وتأثيراً إقليمياً كبيراً. إضافة لذلك ارتبطت بها جملة من المهن مثل الغواصين الذين يبحثون عن صدف اللؤلؤ، ومالكي القوارب، وتُجّار اللؤلؤ، وصُنّاع المجوهرات الذين وظّفوا هذا الموروث الثمين في تصميم وصناعة منتجات فخمة، مشكِّلين بذلك سلسلة قيّمة متكاملة حول هذه الصناعة المربحة، كل ذلك جعل من اللؤلؤ مصدراً مهماً للدخل والثروة.

اللؤلؤ البحريني: استدامة التراث

أولت الحكومة البحرينية اهتماماً كبيراً بإحياء وتطوير هذا القطاع الحيوي. ففي إطار جهود مملكة البحرين لتحقيق التنمية المستدامة في مجال اللؤلؤ، تأتي مبادرات المجلس الأعلى للبيئة، ومعهد البحرين للّؤلؤ والأحجار الكريمة «دانات» الذي يهدف لوضع الخطط والسياسات الهادفة لحماية وتنمية قطاع اللؤلؤ. كما تمّ إطلاق الخطة الوطنية لإحياء قطاع اللؤلؤ وضمان استدامة هيرات اللؤلؤ، والتي تهدف إلى تنظيم عملية استخراج وتسويق اللؤلؤ بطريقة مستدامة.

كذلك تقوم المملكة بإنشاء متاحف ومراكز ثقافية لتسليط الضوء على هذه الصناعة التقليدية والتراث المرتبط بها. بالإضافة إلى ذلك، يتم تشجيع السياحة المرتبطة بهذا المجال، وغيرها من المساهمات، بما يهدف لضمان استمرارية صناعة اللؤلؤ في البحرين كتراث ثقافي وركيزة اقتصادية هامّة للمملكة على المدى الطويل. وبما يعكس التزام البحرين الراسخ بالحفاظ على هذا التراث الثقافي الفريد والإرث التاريخي المرتبط به.

مسار اللؤلؤ: الذاكرة الحيّة

في إطار الحفاظ على هوية مملكة البحرين وتراثها الثقافي، وانطلاقاً من رؤية ملك البلاد المعظم للاهتمام بالتراث الوطني؛ يجسّد «مسار اللؤلؤ» هذه الرؤية الطموحة.

إذ يمثّل هذا المشروع ذاكرة حية لآلاف السنوات من تاريخ صناعة اللؤلؤ في المنطقة، حيث يضم مجموعة من المباني التراثية والمواقع التاريخية المرتبطة بصيد اللؤلؤ والتجارة به.

والذي يهدف لتعزيز الوعي المحلي والعالمي بتاريخ وثقافة صناعة اللؤلؤ في المنطقة، وكذلك توريث المهارات والمعارف التقليدية المتعلقة بصناعته إلى الأجيال الصاعدة. فعلى الرغم من تراجع هذا الاقتصاد عبر الزمن، إلا أنّ بصماته لاتزال ماثلة في الهوية البحرينية والخليجية المعاصرة.

*باحثة أكاديمية في التاريخ الحضاري لمنطقة الخليج العربيّ