مصر وما أدراك ما مصر، لم يطلق على مصر أم الدنيا عبثاً، فكل من يزورها يبقى أسير نهر النيل، وحيّ الحسين، وشوارعها المكتظة بالناس، ومبانيها العريقة وأحيائها المخلّدة في ذكرياتنا، وناسها البسيطة.

.

منذ عامين فقدت الاتصال بأحد أصدقائي الذي كان يعمل فناناً تشكيلياً، كنت غالباً عندما أفتقده أعرف أنني سأجده مُعلّقاً عند أحد الجدران الشاهقة، يخط عليه بأنامله السحرية حروفاً عربيةً تقول أكثر مما تُظهر، أو أنه يقف أمام حائط أو سور منزل يرسم عليه ملامح تلك الوجوه العابرة التي يصادفها، والتي تأبى أن تُفارق ذاكرته فيقرّر رسمها لتغادر مخيّلته بسلام.

.

مضى عامان من الزمن، واختفى صديقي، كنت كلما مررت عند جدار يحمل توقيعه أتساءل أين اختفى؟ ولأن الإجابات دائماً تظهر عندما نسأل، تشاء الصُدف أن أراه جالساً عند إحدى الحدائق يُمسك كوباً من الشاي، ويتأمل السماء، أكاد أجزم بأنه يتساءل في مخيلته الآن، كيف يستطيع أن يلوّن تلك الغيوم البيضاء.

.

أوقفت سيارتي جانباً ونزلت مسرعةً أحيّيه، جلسنا نتحدث مطوّلاً سألته مستغربة، أين كنت؟ قال ببساطة: كنت في الأسر؟ ملامح الصدمة التي علت وجهي عند سماع كلمة أسر، رسمت ابتسامة على شفتيه، استدرك الأمر مسرعاً وقال: لا تخافي كنت في مصر.

.

كان في مصر، ذهب للمشاركة في معرض فني لمدة شهرين، وعاد بعد عامين، قال يحدثني: إنها مصر، أم الدنيا، بوابة أفريقيا، مصر الحضارة والتاريخ والثقافة، أسرتني لم أستطع المغادرة، في مصر سحر غريب يجعل من يزورها يبقى أسيرها وإن عاد، تحدّث كثيراً وحكى لي عن تلك الشوارع والناس، عن الطعام والشراب والفن، عن مجالس الثقافة وحكمة البسطاء، تحدّث وكأنه يحكي قصة حُبّ.

.

إنها مصر التي استقبلته بقلبها المفتوح، وهو الفنان البحريني الذي قصدها ليشكّل فيها لوحات فنية بنكهة بحرينية فريدة من نوعها، في مصر فُتحت له الأبواب، ليس أبواب مصر وحدها، بل أبواب أفريقيا، «كما هم شعب البحرين طيبون وبسيطون، كما هو شعبها» قال لي، «لم أشعر يوماً هناك أنني في غير داري، أو أنني غريب، كانت الابتسامة ترتسم على الوجوه ما إن أقول إنني من البحرين».

.

«نعم غريبة هي مصر» قلت في نفسي، لم أجد أحداً زارها قط وقال عكس ذلك، إنها الدولة التي نشرت نكهة ثقافية في كل الدول العربية، إنها مصر التي غزت أفلامها وثقافتها بيوت الوطن العربي من المشرق للمغرب، إنها البلد الذي يحتضن كل من يزوره فلا يعود يشعر أنه غادر بلاده، أو أنه غريب، بساطة الشعب والمكان تجعلك تألفه وتشعر وكأنك كنت هنا في ما مضى، في كل شارع حكاية، وفي كل حيّ من أحيائها هناك قصة.

.

إنها مصر أسرت صديقي الفنان، كما أسرت قبله قلوب كل من زارها عربياً كان أو أجنبياً، لها مكانة خاصة في قلوبنا -نحن الخليجيين- بالذات، فلا ننسى كم من معلم مصري ساهم في تشكيل ثقافتنا، وكم من طبيب ومهندس وعامل كان ومازال يبني معنا، تحية لك يا مصر، سلاماً لك من أرض دلمون، تحية لكل مدنك وشوارعك، تحية لنهر النيل ولشعبك الطيّب.