تحتفل "اليونسكو" باليوم العالمي للّغة العربية كل عام بتاريخ الثامن عشر من ديسمبر، فلغتنا العربية هي الهوية والعروبة والتاريخ والعزّة، فبها فُتحت القلوب، وقيلت بحروفها أعظم الأشعار وأقوى الملاحم التي ستُروى على مر السنين، فكل عام وكل من ينطق باللسان العربي بألف خير.

ومع هذا الاحتفال السنوي بهذه اللغة العظيمة دعوني أعود بالوقت قليلاً قبل أن أنطلق إلى المعضلة التي أريد معالجتها في هذه المقالة، إن اللغة العربية تُعدّ ركناً من أركان التنوع الثقافي للبشرية، وهي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم، إذ يتكلمها يومياً ما يزيد على 450 مليون نسمة من سكان الكرة الأرضية، وهي تتمتع بصفة لغة رسمية في حوالي 25 دولة.

وقد وقع الاختيار على هذا التاريخ تحديداً للاحتفاء باللغة العربية لأنه اليوم الذي اتخذت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها التاريخي رقم 3190(د-28) المؤرخ 18 في ديسمبر 1973 بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة.

ولكن بالرغم من الانتشار الكبير للّغة العربية وكثرة مستخدميها في بقع جغرافية متنوعة إلا أن هناك فجوة معرفية كبيرة في المحتوى العربي على شبكة الإنترنت، ومنصات التواصل الاجتماعي، فالمحتوى المُتاح على شبكة الإنترنت باللغة العربية لا يتجاوز نسبة 3%، مما يحدّ من إمكانية انتفاع ملايين الأشخاص به.

فلغتنا العربية هي بوابة الدخول إلى عالم زاخر بالتنوع، ومنها تنوع الأصول والمشارب والمعتقدات، وعبر تاريخها الطويل كان لها تأثير كبير ومباشر في مجالات متعددة، وتميزت بجمالياتها المتنوعة بين الفصيحة والعامية، سواء في النثر أو الشعر، فكانت لغة السياسة والعلم والأدب لقرون، وامتد تأثيرها إلى لغات أخرى مثل التركية والفارسية والكردية، إلى جانب الأوردية والماليزية والإندونيسية وبعض اللغات الأوروبية كالإسبانية والبرتغالية والمالطية، وهذا التأثير يعكس دورها المهم في التواصل الثقافي والحضاري.

كذلك مثلت اللغة العربية حافزاً لإنتاج المعارف ونشرها، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية اليونانية والرومانية إلى أوروبا في عصر النهضة، كما أتاحت إقامة الحوار بين الثقافات على طول المسالك البرية والبحرية لطريق الحرير من سواحل الهند إلى القرن الأفريقي.

فخلال تلك القرون الأولى الخالية من التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي إلا أن المحتوى العربي كان شديد الانتشار، ومنه تُترجم الأعمال وتنقل المعارف، ولكن في يومنا هذا ومع كل هذه التكنولوجيا والفضاء الافتراضي، وإمكانية الوصول لكل فرد عربي للمحتوى على الشبكة إلا أن مقدار المحتوى العربي لا يتجاوز 3% فقط!!

ومن تابع منصات التواصل الاجتماعي خلال سنة 2024 على سبيل المثال لا الحصر، ومع عدة أحداث عربية كأحداث غزة وسوريا وانتشار المحتوى العربي من خلال صنّاع المحتوى العربي المقيمين في الغرب، ووضع الترجمة لهم ازداد اهتمام الناس باللغة، وخاصة جيل الألفية الذي لا يعرف عن اللغة العربية سوى أنها لغة "الإرهاب" كما تقول السردية التي نشأ عليها!

ومع مقارنة سطحية بسيطة يظهر التناقض الواضح بين الماضي الزاخر بالإنجازات، والتأثير الحضاري الكبير للّغة العربية، وبين حاضرها الذي يعاني من ضعف المحتوى الرقمي العربي رغم انتشارها الواسع، ورغم وجود الأدوات كلها بين يدي كل عربي، فهذا التحدي ليس مجرد مسألة تقنية أو إحصائية، بل هو تحدٍّ حقيقي لمدى اعتزازنا بلغتنا الأم وسعينا للمحافظة على مكانتها وتعزيزها بما يتناسب مع تطورات العصر الرقمية.

ومن الحلول المطروحة لمعالجة هذه الفجوة، هي قيام جامعة الدول العربية بأخذ دور أكثر فاعلية من خلال إطلاق مبادرة شاملة للاحتفاء باليوم العالمي للّغة العربية لكل الدول الأعضاء، ويمكن أن تتضمّن هذه المبادرة تنظيم فعاليات في كل دولة عربية، تضمّ مؤتمرات وورش عمل يديرها صفوة العلماء والخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي، ومختصون وخبراء في اللغة، ورواد الثقافة، والمحتوى الرقمي بغرض استكشاف سُبل سدّ هذه الفجوة الرقمية عن طريق الأدوات الحديثة، وتعزيز حضور اللغة العربية على شبكة الإنترنت.

ويمكن للأفراد كذلك العمل على توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في تعزيز المحتوى العربي، سواء من خلال منصات الترجمة الذكية، أو تطبيقات تعليم اللغة، أو حتى أنظمة تحليل البيانات التي تسهم في تحسين جودة وانتشار هذا المحتوى، فهذه الخطوة من قِبل الأفراد وصنّاع المحتوى ستساعد في زيادة نسبة المحتوى العربي على شبكة الإنترنت، وستعطي لغتنا المكانة التي تستحقها ليس فقط كوسيلة تواصل، بل لما فيها من رمزية حضارية تعكس تاريخنا وهويتنا.