جميع التصريحات والاستعدادات والإجراءات تكشف عن حقيقة واحدة تقول إن طهران تستعد لخوض معركة قادمة، ربما تستطيع أن تؤجل موعدها، لكنها لا تملك قرار إزالتها من بنود جدول أعمال المرحلة القادمة. ربما يصعب، وفي هذه المرحلة المبكرة رسم صورة لمثل هذه الحرب المتوقعة، لكن طهران تريد أن تأخذ استعداداتها، وذلك لأسباب كثيرة من بين الأهم فيها:
1. علاقة إيران المتشابكة والمعقدة مع منطقة الشرق الأوسط، الحبلى بالتغييرات السياسية المتوقعة خلال الفترة القادمة، جراء العناصر الجديدة التي ولدتها رياح ما يعرف باسم «الربيع العربي» من جانب، والتطورات الطبيعية التي تشهدها دول أخرى من المنطقة ذاتها من جهة ثانية. تكفي الإشارة إلى ما يدور في الدول المتاخمة لإسرائيل، والدور الإيراني فيها، لفهم آليات قوانين علاقة التأثير المتبادلة بين طهران وأحداث الشرق الأوسطـ والتي تنذر بجر طهران إلى ساحة حرب لا تريد أن تكون غير جاهزة لها.
2. محاولات إيران المستمرة لبناء جبهة عالمية من الدول ذات العلاقة المتوترة مع الولايات المتحدة، وسعيها لتجيير قوى تلك الجبهة لما يخدم سياستها الدولية، بما فيها النفطية أيضاً، في صراعها مع واشنطن، والذي تشكل قضايا الملف النووي الإيراني القمة الجليدية التي تخفي جبل الثلج الذي يخفي تحته، بدوره كتلة ضخمة من الصراعات، البعض منها في حالة الخمود بانتظار من يوقظه، والبعض الآخر في حالة محتدمة، وبنذر بالانفجار في أية لحظة.
3. التنافس الإيراني - السعودي على قيادة الكتلة الإسلامية. هذه الكتلة التي باتت تشكل اليوم ثقلاً عالمياً لا يمكن الاستهانة به على المستويين السياسي والاقتصادي. خطورة هذا التنافس أنه أصبح في الآونة الأخيرة يكتسي طابعاً طائفياً شرخه أخذ في النمو على المستوى العمودي والاتساع على النطاق الأفقي، مما جعل إمكانية التحكم فيه أو تقليصه مسألة مستحيلة، ومن ثم فمن المتوقع لهذا التنافس أن يعبر عن نفسه في مناطق جديدة، ويأخذ أشكالا عنيفة غير مسبوقة في تاريخ هذا النمط من التنافس بين الدولتين، اللتين طالما نجحتا في احتواء نقاط الخلاف بينهما، على مدى عقود من الزمان، حتى في حقبة تباهي نظام الشاه بإمبراطورية الطاووس الفارسية.
تأسيساً على ذلك، يمكن للمتابع أن يرى بوضوح مجموعة من الأهداف التي تقف وراء تلك التصريحات، والتي يمكن حصر الأهم فيها في النقاط التالية:
1. الانتقال السلس غير المباغت من حالة الدفاع إلى منطقة الهجوم، تحت مبررات قومية تمس، كما تروج طهران، أمن الجمهورية، وتهدد كيانها، ومن ثم، ومن منطق إيراني بحت، لا يمكن السكوت عنها، او القبول بمنطقها. وليس هناك من وسيلة للدفاع أفضل من البدء بشكل من أشكال الهجوم، حتى وإن بدى صورياً.
2. تعبئة القوة العسكرية الإيرانية، ووضعها على أهبة الاستعداد، فيما لو فرض على طهران خوض أية معركة عسكرية ليست داخلية فحسب، وإنما على المستوى الإقليمي أيضاً، ومن ثم ضمان ألا تؤخذ تلك القوات على حين غرة، أو عندما تكون في حالة استرخاء يصعب عليها الخروج منها إلى حالة الاستعداد، وربما المواجهة. يتم ذلك على نحو موازٍ لاختبار مدى جاهزية تلك القوات وقدرتها على التصدي لأي شكل من أشكال الهجوم المباغت. هنا لابد من الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، هي أنه ومنذ الإطاحة بنظام الشاه اتسع نطاق الجرف الاستراتيجي الإيراني كي يمتد من لبنان شمالاً غرباً، حتى الجمهوريات الآسيوية جنوباً شرقاً، ووجدت طهران نفسها مطالبة، بشكل أو بآخر، مسؤولة عن تأمين شكل من أشكال هذه الجبهة الشاسعة والمليئة بالمتناقضات.
3. تجييش الجبهة الداخلية، وتقليص الخلافات الداخلية التي أصبحت تنهش تماسكها، وتهدد النظام السياسي الإيراني بالتآكل من الداخل، وإن كان ذلك بشكل بطيء، وفي دوائر ضيقة، لكن لم يعد في وسع النظام في طهران تحملها، خاصة عندما يجد نفسه مضطراً للتصدي للقوى الخارجية، وهو أمر لا تستطيع إيران اسقاطه من حساباتها في هذه المرحلة. مثل هذا التجييش، لا تريد أن تحصره الأجهزة الحاكمة في طهران في إطار اتفاقات عامة مع القوى السياسية النشطة المتحالفة معها، أو المنافسة لها فحسب، بل تعمل على توسيع نطاقه كي يصل، وبشكل مباشر إلى المواطن العادي، وعلى نحو مؤثر إيجابياً لصالح المشروع السياسي الإيراني على المستويين الإيراني الضيق، والشرق أوسطي الأوسع نطاقاً.
4. إشاعة الطمأنينة في نفوس حلفاء طهران الإقليميين، قوى سياسية كان أولئك الحلفاء كما هو الحال مع حزب الله في جنوب لبنان، أو أنظمة قائمة غير مستقرة مثل العراق، أو أخرى مهددة بالسقوط مثل سوريا، سواء من أجل ضمان دعمهم السياسي خلال المناوشات السياسية، أو مشاركتهم المباشرة عندما تدق طبول الحرب، وتشتعل الجبهة العسكرية، دون إهمال المعارك الإعلامية التي بدأت ترتفع درجة حرارتها ضد إيران في الأشهر القليلة المنصرمة، ومن المتوقع لها أن تستمر في الغليان خلال الفترة القادمة.
5. إعادة الثقة بين طهران والأنظمة العربية المنافسة، أو تلك التي تعاني فيها العلاقات من بعض الفتور، وفي مقدمة هذه القائمة دول تحظى بثقل سياسي، من غير الممكن تجاوزه، مثل مصر والسعودية، أو البعيدة عن حلقات التنافس المباشر ومن الخطأ إغفالها، مثل تونس والجزائر. يدفع طهران نحو تهدئة الجبهة العربية، خشيتها من استخدام أراضي دول تلك الجبهة كمواقع للتقدم في حال نشوب حرب ضدها، أو الاستفادة منها في تمويل حركة عربية مناوئة للنظام القائم، بدفع عرب الساحل الفارسي إلى الانتفاض أو إثارة المشاكل، في وقت لا تكون طهران فيه مستعدة للالتفات نحو الداخل، نظراً لانشغالها بتلبية احتياجات معاركها الخارجية.
6. إثارة التردد في دوائر أي نظام تساوره نفسه بشن هجوم على طهران، وخاصة دولة مثل الولايات المتحدة، التي تريد طهران أن تزرع في نفوس المسؤولين في دوائر صنع القرار فيها، أن أية معركة ضد طهران ستكون باهظة الثمن، ليس من حيث الكلفة المالية فحسب، وإنما أيضاً من حيث الخسائر البشرية. مثل هذه الرسالة تود طهران أن تصبح مكوناً أساسياً من مكونات التفكير في أية حرب قادمة ضدها.
تلك كانت الأهداف وراء السلوك الإيراني، الذي من الطبيعي أن يكون مؤثراً بشكل مباشر، بل وعميقاً ليس على الأوضاع القائمة في منطقة الشرق الأوسط اليوم فحسب، وإنما على المستقبل الذي ينتظر تلك الدول. ومن الطبيعي أن يرفع المواطن العربي الحريص على مصلحة بلده عقيرته متسائلاً أين هو المشروع العربي الذي بوسعه التعامل، ومن منطلقات ندية مع هذه السياسات الإيرانية، التي لا تمسنا فحسب، وإنما ستكون أحد العوامل المهمة التي يمكن أن ترسم مستقبل المنطقة.