اختلفوا في مكان المولد والمهنة والنشأة، لكن كان يجمعهم قاسم مشترك آخر بجانب الاسم والديانة؛ هو الانتماء للصهيونية، وتعبر عقلية وفكر كل منهما عن مراحل مر بها وطننا العربي بعد انتهاء الحرب العالمية وحتى يومنا هذا.
فبداية مع المتخصص في دراسات الشرق الأدنى والأوسط والتاريخ الإسلامي، أستاذ جامعة برنستون، الذي خدم أثناء الحرب العالمية الثانية في الجيش البريطاني بالهيئة الملكية المدرعة وهيئة الاستخبارات عام 1940م، ثم أعير إلى وزارة الخارجية، برنارد لويس، فقد تفنن في رسم خرائط للشرق الأوسط على غرار خرائط سايكس - بيكو، لكن في تلك المرة كان التقسيم على أسس مذهبية وليس على حدود جغرافية، حتى قسمت خرائطه وطننا العربي إلى دويلات مذهبية صغيرة، واعتبر أن تقسيمه هو تصحيح لأخطاء تقسيم سايكس - بيكو.
بعد أن اختمرت أفكار برنارد لويس في عقول الكثيرين من أصحاب القرار في الغرب، أصدر بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي، في أواسط السبعينات كتابه «بين جيلين»، وكتب فيه: «الشرق الأوسط مثلاً مكون من جماعات عرقية ودينية مختلفة يجمعها إطار إقليمي، فسكان مصر ومناطق شرق البحر المتوسط غير عرب، أما داخل سوريا فهم عرب، وعلى ذلك فسوف يكون هناك شرق أوسط مكون من جماعات عرقية ودينية مختلفة على أساس مبدأ الدولة أو الأمة فتتحول إلى كانتونات طائفية وعرقية يجمعها إطار إقليمي كونفيدرالي»، ثم يضيف: «وهذا سيسمح للكانتون الإسرائيلي أن يعيش في المنطقة بعد أن تصفى فكرة القومية»، وقبل ترك بريجنسكي لمنصبة بعام واحد أثناء حرب الخليج الأولى قال: «إن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى التي حدثت بين العراق وإيران، تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود سايكس- بيكو».
وفى عام 1983م اعتمدت الولايات المتحدة المشروع الذي قدمه برنارد لويس لتفتيت الشرق الأوسط ووافق عليه الكونجرس الأمريكي بالإجماع في جلسة سرية، وفي 20/5/2005 أثناء مقابلة إعلامية مع لويس قال الآتي بالنص: «إما أن نضع العرب تحت سيادتنا أو ندعهم ليدمروا حضارتنا فلا مانع من احتلالهم». وعندما دعت أمريكا عام 2007 إلى مؤتمر انابوليس للسلام، كتب لويس في صحيفة «وول ستريت» «يجب أن لا ننظر إلى هذا المؤتمر ونتائجه إلا باعتباره مجرد تكتيك مؤقت غايته التآلف ضد الخطر الإيراني وتسهيل تفكيك الدول العربية والإسلامية ودفع الأتراك والأكراد والعرب والفلسطينيين والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضاً، كما فعلت أمريكا مع الهنود الحمر»، ويعد برنارد لويس من أوائل الذين نصحو الولايات المتحدة بالتعامل مع الإسلام السياسي.
من هنا ننتقل للبرنار الثاني، برنار كوشنير، أحد مؤسسي منظمة أطباء بلا حدود سنة 1971، والتي ترأسها حتى عام 1979 ثم انتقل من الطب إلى السياسة، وتولى منصب وزير الخارجية الفرنسية بمعاونة اللوبي الصهيوني بباريس، وفور تسلم كوشنير وزارة الخارجية تلقى بهذه المناسبة الدكتوراه الفخرية من الجامعة العبرية، فكانت فرحة الإسرائيليين كبيرة بتولي كوشنير ذلك المنصب، وكانوا يخشون أن يصدموا بهوبير فيدرين، لذلك لم يتأخر كوشنير في الشكر والعرفان لإسرائيل، وذلك عندما صرح: «تسيبي ليفني صديقتي والإسرائيليون أهلي وأنا لا أريد أكثر من مساعدتهم».
وبدأ استكمال المخطط بأضعف حلقات الوطن العربي منطلقاً من لبنان التي زارها عشر مرات محاولاً دفعه للجحيم مجدداً، ولم يتخلَ عن مهمته حتى بعد تركه لقصر لكي دورسيه (مقر وزارة الخارجية الفرنسية)، فكان الأب الروحي لمؤتمر دعم المعارضة السورية الذي أقيم في باريس جالساً في الصفوف الأولى بين مندوب جماعة الإخوان المسلمين وأستاذه عراب الربيع العربي، البرنار الثالث، وأينما تواجدت إسرائيل في مؤتمر كان كوشنير حاضراً، وأينما أتت سيرة العرب كان متآمراً، وهذا ليس غريباً على كوشنير الذي قد لا يقف عند عزف النشيد الوطني لبلاده «لامارسييز» بينما يقف بخشوع عند عزف النشيد الوطني البريطاني «فليحفظ الله الملكة».
ومن برنار الحاخام إلى برنار الجنرال نجم 2011 الأوحد، ونجم جميع أفيشات الربيع العربي، سواءً كان في تونس أو ليبيا أو مصر أو اليمن أو سوريا، وأحد أهم الجسور بين التنظيم الدولي لجماعة الإخوان وقادة الغرب، برنار هنري ليفي، المترشح لرئاسة دولة إسرائيل بعد أن شارك العرب في ميادين ثوراتهم أعلن أن الربيع العربي على أبواب الجزائر، وأنه يفعل هذا خدمة للصهيونية وليس للعرب، إنه الخبير العسكري وقت الحروب، والفيلسوف وقت الثورات، والحمل الوديع أمام الكاميرات، رفض جائزة نوبل (مكافأة كل عراب) بينما خر ساجداً لدكتوراه فخرية مختومة بختم دولة إسرائيل، وأكثر من حول خرائط ومخططات الماضي والحاضر إلى واقع وطبقها على الأرض بامتياز، بدايةً من يوليو 2004 عندما خاض برنار ليفي حملة التحالف من أجل إنقاذ دارفور بمشاركة نجوم هوليود، والتي رفعت شعار «العرب يذبحون السود»، مروراً بإقناع ساركوزي بالتدخل العسكري في ليبيا، وصولاً لدعمه تقسيم سوريا، وصارت كتبه عن تجربة كل ربيع في الشرق الأوسط الأكثر مبيعاً في العالم والأكثر جرحاً في قلوبنا، وربما يحضر لنا الآن برنار ليفي كتاباً جديداً عن دويلات ليبيا الثلاثة فزان وطرابلس وبرقة بعد إشهارهم في مكتب تقسيم الدول.
فمثلما قدم برنار كوشنير البوسنة وكوسوفو ورواندا «كقرابين التفتيت» للولايات المتحدة، كذلك قدم برنار ليفي الشرق الأوسط الجديد، وعلى الجميع أن يعلم بأن العواصف التي بدأت في بداية 2011 لم تنتهِ بعد، وربما تجتاح مصر قريباً عاصفة جديدة، لكن كلي ثقة بمن استطاع امتصاص العاصفة الأولى ورد الصاع صاعين على مقدرة من تكرار ذلك مجدداً ورد الصاع عشرة أضعاف.
بالفعل كل هذا ليس وليد اليوم أو الصدفة، ولسنا مصابين بالبارونية، لكن لم ننتبه إلى ما يحدث حتى رأينا تقسيم السودان إلى شمال وجنوب، وفي انتظار انفصال ثانٍ، وكذلك أزمات الأكراد في العراق وجبهة البوليساريو في المغرب والحوثيون في اليمن، والرغبة الانفصالية الشديدة في كثير من أقطارنا العربية، ولكن في كل أزمة كان يتلخص رد فعلنا في مقولة موشي ديان «إن العرب لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يطبقون، وإذا طبقوا لا يأخذون حذرهم».
كاتب و باحث سياسي بقضايا الشرق الأوسط