الإنسان الوفي لا ينسى أبداً من قدم له معروفاً أو عمل عملاً صالحاً، وأخرجه من أزمة ما، حيث يبقى هذا العمل يجري في دمه طوال حياته، ربما يتناساه البعض، وربما لا يعطيه البعض أية أهمية، نظراً لانشغالاته اليومية، ولكن من عادة الأوفياء أنهم لا يستطيعون النسيان، لنرى معاً واحداً من هؤلاء الأوفياء على مستوى العالم، والذي علينا أن نرفع له القبعة، ونضع تجربة كلامه في قلوبنا قبل عقولنا.
قبل فترة تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً من مذكرات الراجحي الجد، وهو ما زال حياً أطال الله في عمره.
يقول الراجحي في مذكراته «كنت فقيراً، لدرجة أنني عجزت عن الاشتراك في رحلة للمدرسة قيمة المشاركة فيها ريال سعودي واحد، رغم بكائي الشديد لأسرتي، التي لم تكن تملك الريال»، ويضيف «قبل يوم واحد من الرحلة أجبت إجابة صحيحة على سؤال، فما كان من معلم الفصل إلا أن أعطاني ريالاً مكافأة مع تصفيق الطلاب، حينها لم أفكر، وذهبت مسرعاً واشتركت في الرحلة، وتحول بكائي الشديد إلى سعادة غامرة استمرت شهوراً، وكبرت وذهبت الأيام وغادرت المدرسة إلى معترك الحياة، وفي الحياة وبعد سنوات من العمل وفضل الله، عرفت العمل الخيري، هنا بدأت أتذكر ذلك المدرس الفلسطيني، الذي أعطاني الريال، وبدأت أسأل نفسي هل أعطاني ريال صدقة أم مكافأة فعلاً؟!».
يقول: «لم أصل إلى إجابة، لكنني قلت إنه أياً كانت النية فقد حل لي مشكلة كبيرة وقتها، ودون أن أشعر أنا أو غيري بشيء، وهذا جعلني أعود إلى المدرسة وإلى جهات التعليم، بحثاً عن هذا المعلم الفلسطيني، حتى عرفت طريقه، فخططت للقائه والتعرف على أحواله».
يضيف الراجحي قائلاً «التقيت هذا المدرس الفاضل، ووجدته بحال صعبة، بلا عمل ويستعد للرحيل، فلم يكن الا ان قلت له بعد التعارف يا أستاذي الفاضل لك في ذمتي دين كبير جداً منذ سنوات». قال له الأستاذ «لي ديون على أحد»، وهنا سألته: هل تذكر طالباً أعطيته ريالاً.. لأنه أجاب كذا وكذا، بعد تذكر وتأمل قال المدرس ضاحكاً: نعم.. نعم.. وهل أنت تبحث عني لترد لي ريالا!».
يقول الراجحي: «قلت له نعم.. وبعد نقاش ركبنا سيارتي معا وذهبنا».
ويتابع الراجحي في مذكراته «وقفنا أمام فيلا جميلة، ونزلنا ودخلنا فقلت له يا استاذي الفاضل هذا هو سداد دينك مع تلك السيارة وراتب تطلبه مدى الحياة، وتوظيف ابنك في مؤسسة».
ذهل المدرس، وقال: «لكن هذا كثير جداً».. فرد عليه الراجحي وقال له: «صدقني ان فرحتي بريالك وقتها أكبر بكثير من حصولي الآن على 10 فلل كهذه، ما زلت اتذكر ولا يمكن أن أنسى تلك الفرحة».
أتصور أن كل واحد منا ربما مر بمثل هذه التجربة، في حياته أو في شكل من أشكالها، وهذه التجربة قد تكون ساهمت في احداث نقلة نوعية في حياته سواء العمل الوظيفي أو على مستوى التوجه، ولكن كم منا حاول أن يقوم بما قام به الراجحي الجد، ولعل هناك خرون يفكرون كما فكر الراجحي في رد شيء من الدين، أرجو ان نعود الى بيت الذاكرة للتفتيش عن هؤلاء، الذين أضاؤوا لنا الطريق.