نحن كلنا لسنا نتاج مواهبنا، أو قدراتنا الخاصة، أو بيئتنا فقط، بقدر ما نحن نتاج الكثير من الأيادي، التي ساعدتنا على النهوض والتقدم في الطريق الذي حلمنا به، وفي الهدف الذي نسعى إليه، فلا يمكن لأحد منا أن ينسى والديه وأخوانه وأهله ومدرسيه وأصحابه وزملاء المدرسة وزملاء العمل، كلهم ساهموا بشكل ما في إيصاله إلى المكان الذي وصل إليه، حتى لو كانوا قد وقفوا ضده في مرحلة ما، فهذه أيضاً أحد الدوافع التي ساهمت في صناعته كإنسان أو كمبدع في أي مجال من مجالات الحياة.
قبل فترة قرأت عن أحد الأعمال التشكيلية الرائعة والتي وصلت إلى أن يكون لها مكانها الكبير في الفن التشكيلي العالمي،
أنا هنا أتكلم عن «لوحة اليدين» عن قصة هذه اللوحة، ودعونا نسرد السبب الذي جعلها تصل إلى هذا المستوى من الأهمية.
تقول القصة: في قرية قريبة من بلدة نورمبرج الأوروبية، في القرن الخامس عشر، عاشت عائلة مكونة من أب وأم وثمانية عشر طفلًا. لذا كانت ظروفهم المادية في غاية الصعوبة. ولكن ذلك لم يمنع الأخوين الأكبرين من حلم كان يراودهما، فالاثنان موهوبان في الرسم، ولذا حلما بالدراسة في أكاديمية الفنون في نورمبرج. كان حلماً لأنهما علما أن والدهما لن يستطيع أن يتكفل باحتياجاتهما المادية وقت الدراسة، وأخيراً، توصلا إلى حل بعد مناقشات طويلة امتدت لأيام عديدة، أن يُجريا قرعة.
الخاسر يذهب للعمل في المناجم، ويتكفل بمصاريف أخيه الفائز لمدة أربع سنوات، هي فترة الدراسة في الأكاديمية، وبعدها يذهب الآخر ليدرس، ويتكفل به أخوه ببيع الأعمال الفنية أو بالعمل في المناجم لو اقتضت الضرورة. أُجريت القرعة، فاز بها ألبرت دورير، وهكذا ذهب إلى الأكاديمية، أما أخوه فذهب إلى المناجم ليعمل فيها أربع سنوات. منذ البداية كان واضحاً أن ألبرت سيكون له شأن عظيم في عالم الفن، وعندما حان وقت تخرجه، كانت لوحاته وتماثيله تدر عليه دخلاً وفيراً.
عاد ألبرت إلى قريته بعد غياب 4 سنوات، وسط احتفال هائل، وصنع له أهله وليمة كبيرة، وعندما انتهوا من الطعام، وقف ألبرت وقال: «يا أخي الحبيب، الله يبارك لك، ويعوضك عن تعبك لأجلي، لولاك لما استطعت أبداً أن أدرس في الأكاديمية، الآن حان دورك في الذهاب، وأنا سأتكفل بمصاريفك، فلديّ دخل كبير من بيع اللوحات». اتّجهت الأنظار صوب الأخ منتظرة ما سيقوله،
أما هو، فهز رأسه ببطء وقال: «لا يا أخي، أنا لا أقدر على الذهاب الآن. انظر إلى يديّ وما فعلته بهما 4 سنوات من العمل في المناجم، لقد تكسر الكثير من عظامها الصغيرة، لا يا أخي، فإني لا أقدر على الإمساك بريشة صغيرة والتحكم في الخطوط الدقيقة».
وذات يوم مر ألبرت على حجرة أخيه، فوجده يدعو ويداه مضمومتان، فاستوقفه المنظ، وشعر برهبة شديدة، وهنا أخذ أدواته ورسم تلك اليدين، كتكريم للإنسان الذي لم يفكر في نفسه، وأطلق على اللوحة اسم «اليدين»، وأما العالم فأذهله الرسم وأعاد تسمية اللوحة بـ»اليدين المصليتين». لقد مر على تلك القصة مئات الأعوام، وأعمال هذا الفنان منتشرة في متاحف كثيرة، ولكن معظمنا لا يعرف مِن أعماله سوى هذه اللوحة الرائعة. الفنان هو ألبرت ديورر ولد في ألمانيا عام 1471، وتوفي عام 1528، والصورة هي «اليدين المصليتين The Praying Hands» المرسومة سنة 1528.
عندما ترى هذه اللوحة تذكر: كل يد قدمت لك خدمة، كل يد ضحت من أجل راحتك، كل يد بذلت نفسها من أجلك.
لا تتصور نفسك في يوم أنك وحدك من خلق النجاح، انظر إلى الأيادي التي ساعدتك على هذا النجاح، انظر إلى الأبواب التي فتحت لك، انظر إلى المساحات التي أعطيت لك، واشكر الله على كل النعم التي أنت فيها، واشكر الجميع الذين عملوا على رفعك إلى الأعلى.