يرسل إلينا المولى الكريم إشارات وعلامات بينات في مواقف الحياة المتعددة لينبه نفوسنا الغافلة التي تلهث وراء مشاغلها الكثيرة، وليذكرنا بالحقيقة الحتمية التي سنلج إلى رحابها جميعاً طال الزمان أو قصر.. إنها أحداث الحياة المفاجئة التي تدك النفوس وتنهض بالهمم ولربما تؤلم القلوب التي تعتصر ألماً لفراق من تحب.. هكذا هو حال المرء مع المسير يمضي ليترك في كل مساحة يعيشها الأثر الجميل الذي تتذكره به الأجيال..

هذه الكلمات المتناثرة جالت في خاطري بعد رحيل المنشد الكويتي المؤثر «مشاري العرادة»، الذي رحل إثر حادث أليم تعرض له في المملكة العربية السعودية.. لربما لا تربطني بالعرادة أي علاقة شخصية، والبعض الآخر لا يعرفه سوى ما سمع عنه بعد انتقاله للرفيق الأعلى.. فقد ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بالحديث عنه وعن مآثره #مشاري_العرادة.. ما السر الذي كان بينك وبين المولى الكريم جعل منك أنموذجاً فريداً يتحدث عنه الناس؟

لقد ترك مشاري في قلوب كل محبيه وكل من لم يعرفه أثراً جميلاً بعد أن رحل.. فقد اشتهر بتلك الأنشودة الجميلة التي سجلها لكل امرئ يتنفس أجواء الحياة.. أنشودة «فرشي التراب» التي تحاكي حال المرء بعد أن تنتهي مغامرته في الدنيا، وتنتهي ضحكاته وجلساته مع أهله ومحبيه.. لم تكن أنشودة «فرشي التراب» مجرد أنشودة عابرة.. بل كلمات محسوسة تنبض في عروق كل من يسمعها ويشاهد لقطاتها المؤثرة.. فكانت الحقيقة التي تكلم عنها بالأمس بلسان حاله.. مذاقاً يتذوقه اليوم.. ليكون التراب فرشه.. وينتقل إلى ربه يقابله بأعماله الخفية التي جعلت منه اليوم شامة يشار إليها بالبنان..

يقول مشاري العرادة رحمه الله عندما كان بصدد أن يسجل نشيدة «فرشي التراب»، في المقبرة ومكث فيها 8 ساعات تقريباً، ومن ثم انتقل للتصوير للأستوديو نظراً لهبوب رياح شديدة حالت دون التصوير: «هذا الموقف الذي كان طريفاً أبكاني! حيث كنت أفكر بكلمات النشيدة كثيراً وأتأمل المقابر وأصحابها القابعين تحت الجنادل والتراب، فأحدث نفسي: اليوم أستطيع أسمع غيري وأقول فرشي التراب وأحكي معاناة القصيدة، ولكن غداً لا سامع ولا مجيب!».

إن المتتبع لسيرة العرادة يدرك أنه اتخذ من الفن الإسلامي المتزن رسالة هادفة يحاكي بها الناس والمجتمع، بل إن رسالته امتدت في حب الوطن فشارك في المهرجانات الوطنية حباً وولاء للأرض الطيبة التي ترعرع عليها.. تلك الكلمات التي أنشدها بألحان جميلة مؤثرة، كنا نسمعها من قبل.. ولم نعِ ولو للحظة واحدة أن مغنيها ستأتي عليه لحظة وهو في ريعان شبابه يتركها أثراً راسخاً في قلوب كل الناس.. كم نحن بحاجة ماسة لكي نصنع من أنفسنا نموذجاً في ذاكرة الزمان.. ليس من أجل حب الشهرة.. ولكن من أجل أن نشتهر باسمنا بعد رحيلنا من الدنيا، فترتفع الكفوف إلى المولى الكريم تدعو لنا بالرحمة والمغفرة.. مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال: وجبت وجبت. ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شراً. فقال: وجبت وجبت. قالوا: يا رسول الله! ما قولك وجبت؟ قال: «هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً فقلت وجبت لها الجنة. وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض». تفكرت مجدداً بعد هذه الوقفة سرعة الأيام المخيفة جداً.. مضت الأيام الأولى من العام الميلادي الجديد سريعة.. رمضان على الأبواب.. العام الدراسي بدأ ينصرم.. انتقلنا بسرعة للتفكير في أهدافنا للعام الجديد.. بدأنا نخطط.. بدأ البعض يكتب خطته.. البعض الآخر لم يسعفه الوقت لكي ينهي كلمات مقالاته.. البعض الآخر مازال يفكر في فكرة يجدد بها حياته.. الأسرة السعيدة مازالت تنتظر تحقيق أحلامها.. قررت أن يكون العام الجديد المرحلة الجديدة من حياتها.. تحقق خطوات الأحلام السادرة.. الأب مازال يفكر في النهوض بتلك القيم التي تربى عليها.. وعلمها لأجيال درسها في ميادين التعليم.. مازال يطمح أن يكون مؤثراً في محيط حياته.. أسرته.. أصحابه.. وكل من يحبه.. والقائد الملهم.. لم يستطع بعد أن يكون تلك الأداة المؤثرة التي ترسم لوحاتها الجميلة على جدران القلوب.. ليس لأنه يسوف كثيراً.. أو غير مهتم بما يدور حوله.. ولكن.. الأوقات تمضي سريعاً شاء أم أبى.. فإذا به يتنفس أجواء يوم جديد.. بلا مقدمات.. وبلا سابق إنذار.. يا ترى هل فكرت يا مشاري في كل تلك الأحلام السادرة.. وهل وقفت تتأمل حال كل أولئك الذي يسيرون في مسير يحسبونه طويلاً.. ولكنه قصير جداً.. في رحلة لا تتعدى خطوات نخطوها لنستريح تحت ظل شجرة.. ونحسبها استراحة طويلة.. ولكنها قصيرة جداً.. فإذا بنا ننتقل إلى حياة أخرى.. مشوبة بالأخطار.. وأي أخطار هي.. إنها مرتبطة بأعمال تلك الاستراحة العابرة المروية في حكاية الزمان!!

لعمري أنك أحسنت صنيع كلمات مؤثرة بألحان خالدة ستظل تسمعها الأجيال وتحكي سيرتك لأبنائها.. لأنك بحق كنت شخصية جميلة لم نتمكن من العيش معها في حياتها.. ولكنها كانت شخصية أثرت في قلوب الملايين.. بل لربما اهتدت بسببها الآلاف الذين عاشوا معانيها لحظة بلحظة..

هنا قررت أن أقف.. بعد خطوات مشيتها بلا إحساس.. عرفت أنني وصلت إلى مرحلة.. لا بد أن أكون فيها مثل الطائر المحلق المتعطش للمكان الذي صنع فيه عشه.. ومازال يحن إليه كلما اغترب وارتحل إلى مناطق أخرى.. قررت أن أكون مثله.. أرتوي من كل بحر قطرة.. وأقطف من كل بستان زهرة.. وأرتوي قطرات من ماء الإيمان.. أدعو ربي أن يسقيني إياها في كل حين.. في تلك المحطة الأثيرة على قلبي.. قررت أن أستثمر كل فرصة سانحة تمر في مسيري.. وأكون سطوراً في حياة كل من أقابله.. حتى يتذكرني.. ويدعو لي بدعوة تنفعني بعد رحيلي من هذه الدنيا.. فلا أنتظر حتى يكتمل البنيان.. علي أن أستثمر كل لحظة.. لأصنع الآثار الخالدة.. حتى تتحدث الأجيال عن سيرتي.. في يوم من الأيام..

* ومضة أمل:

سأستكمل معكم كتابة فصول حكايتنا الجميلة.. وسأكون في حياتكم بسمة لا تغادر محياكم..