تتزين المحرق هذه الأيام لاستقبال العديد من ضيوفها القادمين من كافة أنحاء العالم، للمشاركة في الاحتفال بالحدث البحريني الهام «المحرق عاصمة الثقافية الإسلامية 2018» والذي يبرز المكانة الثقافية والسياحية لمملكة البحرين، وقد منحت المحرق هذا اللقب لعراقة تاريخها وإرثها الإنساني ولغنى نسيجها العمراني وتراثها المادي وغير المادي المتميز ونتاج الدعم من القيادة للحراك الثقافي في البحرين.

جميعنا نترقب بشوق خلال هذا العام مشاريع بنية تحتية ثقافية ستثري مدينة المحرق وتزيد من رونقها وجمالها، كلنا نترقب مشروع طريق اللؤلؤ المسجل على قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو وغيرها من البرامج التي تنم عن جهود مبذولة في إثراء المدينة بالحراك الثقافي. ولا غرابة في ذلك فكثير من المهتمين بالآثار والثقافة يجدون ضالتهم في تلك الجزيرة حيث المعالم الأثرية والثقافية فكم استوقفتهم قلعة عراد وما تشهد به جدرانها من تاريخ وعراقه، وكم أسرهم جمال موقعها وأهميته الاستراتيجية، ولمدرسة الهداية أول مدرسة نظامية في البحرين الأثر في نفوس الجميع حيث خرجت رجال صنعوا التاريخ، وقائمة المعالم الأثرية والثقافية بالمحرق طويلة تحتاج لوقفات ووقفات.

ودعونا نسلط الأضواء على قرية تلامس شواطئ البحر الخلابة، وتعج مياه بحرها بكواكب المياه العذبة حتى تشعر أنك أمام معجزة ربانية، ويزخر ترابها بعبق التاريخ، تاريخ ممتد كامتداد البحر، وتستمد هذه القرية عراقتها من حرص أهلها على التمسك بعادات وتقاليد أهل البحرين الأصيلة، أهلها الذين صنعوا التاريخ وحرصوا على توارثه أباً عن جد، أهلها الذين أصروا أن يُوَثق تاريخها ونتاجها الثقافي على مستوى عالمي، إنها قرية قلالي فعندما تجوب أزقتها ترى أصالة أحياءها التي تقاوم التغير لتحافظ على هويتها، وترى أهلها الذين مازالوا يتمسكون بالعادات القديمة ويحافظون على تاريخ المنطقة تراهم يحفظون أسماء أحيائها «فرجانها» فتسمعهم ينادون بفريج الجودر، وفريج المناعي، ويتغنون بفريج الشروقي والماجد وغيرها من «الفرجان» في محاولة للحفاظ على تاريخ قريتهم، ترى الفرق الشعبية مازالت حية والجميل أنها تُحيى بدماء شبابية، وترى أطفالهم يتقنون الألعاب الشعبية التي تكاد أن ينساها أبناء جيلهم حتى لتشعر خلال جولتك أن تراثنا لن تغيب له شمس. لن تخلو جولتك من الوقوف أمام مساجد صغيرة تكمن قيمتها في قدمها، وهناك آثار عيون الماء العذبة القديمة وكأن هذه القرية كانت تعوم على بركة من الماء الزلال، وحتماً ستقف عند منزل قديم رممته الجهات المختصة حديثا لتحافظ على بقائه صامداً أمام الزمن.

إنه منزل ذلك الرجل الكفيف الذي هزم الظلام ورفع علم البحرين في المحافل الدولية، في فرنسا تحديداً منذ عام 1978 وتم وضع إسطوانته التي سجل عليها صوته في غرفة خاصة وتم دعوة المختصين الفرنسيين بدراسة طبقات صوته التي اعترف الكثير منهم بأنه يملك قدرات هائلة قلما تجدها في فنان. نعم إنه النهام سالم العلان الذي ألهمه صوت أمواج البحر فصار نهاماً بارعاً، ذلك النهام الذي طوع البحار الشاسعات وهو يطلع صوته بأغاني تحمل في كلماتها آهات الغواص وتنسج بين ثناياها تاريخاً عريقاً، فعلى الرغم من بساطة هذا الرجل في التعليم إلا أنه أصر على الوصول للعالمية لذا شارك في تسجيل الإسطوانة 100 لليونسكو في فرنسا وهي إسطوانة خاصة عن فنون الغوص في البحرين حيث تصدر المنظمة وبصفة دورية إسطوانة دولية تتناول فنون شعب من الشعوب فكانت الإسطوانة 100 تتعلق بفنون البحرين، وقد أبهر العلان جميع الحضور في تلك الأمسية التي أبهر الحضور بطبقات صوته وجعل الصحف الفرنسية تفرد لهم مساحات على صدر صفحاتها الأولى تشيد بالفن الكبير وتفرد له صحيفة «اللوموند» وصحيفة «لوفيغارو» مانشيتات على صدر صفحاتها الأولى مع صور معبرة له، وتناقش طبقات صوته من منظور علمي فني.

هو فنان عبر عن مشاعر وأحاسيس قريته بل الشعب البحريني والخليجي ورسم بصوته العذب القوي صورة لملامح ذلك الزمن «عصر ما قبل النفط» ولقد مكنه صوته من أداء أصعب الألوان، موهبة نبعت من قرية صغيرة ونمت في البحر وعبر مياه الخليج والمحيطات لتتربع على عرش العالمية.

عبق التاريخ يفوح من هذه القرية حيث تقاوم مد التطور والنمو العمراني لتحافظ على هويتها وتاريخها الذي يتطلع أهلها والمهتمون بالثقافة لتوثيقه وحفظه، وحفظه يكون في صور مختلفة كوضع لافتات توثق أسماء «أحيائها»، وتوثق أسماء مساجدها الصغيرة وأهم عيون الماء بها، والرواد من أهلها أو تحويل بعض مبانيها لمراكز ثقافية أو معالم أثرية ولعل أبرزها منزل النهام سالم العلان، كما ننتظر من روادها المهتمين بالتاريخ أن ينبري قلمهم ليوثقوا تاريخها فقد أنجبت قلالي الكثير من الرجال المبدعين في مجالات عدة... ودمتم أبناء وطني مبدعين.