لأسباب مفاجئة هبت، في بعض دول الخليج، عاصفة تزوير الشهادات الأكاديمية من دول وجامعات عديدة. العاصفة تهز برياحها العديد من الأشخاص، منهم شخصيات تتقلد مناصب كبيرة في البلاد. وقد أبدت الجهات الرسمية في دول الخليج المعنية تجاوباً مع التتبع القانوني لحاملي تلك الشهادات. وتفاعل كثير من المثقفين والمواطنين مع العاصفة لأن أحد قواعد الترقي الوظيفي تستند على الترقي الأكاديمي، فإن شابَ عملية الترقي تزويراً، فإن ذلك مدعاة للتشكيك في عدالة التنافس الوظيفي. وحصول كل صاحب حق على حقه المُستحق.

ظاهرة الجامعات والشهادات المزورة يمكن إحالتها إلى إفرازات العولمة، التي تمكنت عبر مفاهيمها وآلياتها من «عَوْلَبَة» كل شيء وتسويقه وترويجه. بما فيها التعليم. وأحد تمثلات عولبة التعليم: التعليم عن بعد في مجالات تُخِل بأساسيات التعليم الجيد، والعادل أيضاً. تمثل آخر يكمن في التعليم «المُفصل» على مقاس الطالب، خصوصاً الوافدين. حيث يتم «تصنيع» جدول دراسي مناسب لظروف السفر، ومحاضرات مصورة فيديو تبث على برنامج «اليوتيوب» في موقع الجامعة للمساقات التعليمية العملية التي يجب أن يحضرها الطالب ولكنه قد لا يتمكن من ذلك. وستحسب له حضوراً كاملاً!! ومادة تعليمية تتلاءم «كماً» مع الطالب غير المتفرغ كالموظف ورب الأسرة. وغيرها من الخدمات والتسهيلات العجيبة والغريبة التي يمكن أن يتدلل الطالب ويتشرط للحصول عليها مقابل مبالغ نقدية تزيد مع زيادة نسبة الدلال في التعليم. وهذه المعلبات التعليمية تشمل مختلف الدراجات الأكاديمية من البكالوريوس والماجستير والدكتوراه. وتشمل كافة التخصصات من علوم الإدارة العامة إلى ... ربما... هندسة الذرة. وهذه الجامعات المُعلبة تنتشر في دول كثيرة، وربما تتورط بها بعض الجهات الحكومية لأسباب اقتصادية.

وعلى كل حال فإن تزييف الشهادات «المُعلبة»، يمكن كشفه بسهولة متفاوتة لأن اعتماد الشهادات الأكاديمية عملية تخضع لمعايير وشروط متفق عليها عالميا، وإجراءات فحص الشهادات والتثبت من سلامة الجامعات هي إجراءات طويلة ومعقدة لكنها مقننة ومضمونة النتائج في الغالب الأعظم من الحالات. ولكن ثمة نوع من التزوير والتزييف يستعصى كشفه ولا تنطبق عليه إلزامات الإجراءات المقننة. ذلك لأن الشهادات الأكاديمية تكون صحيحة الإصدار والاعتماد، ومن جامعات معترف بها، وربما... جامعات عريقة. إنه تزوير «مصداقية» الدراسة نفسها، وتزوير حقيقة «الجهد الفردي» للطالب ونسبة الإنجاز الفعلي الذي أدى إلى الحصول على الشهادة الأكاديمية للطالب نفسه.

في السابق تعاونت بعض الجامعات المعترف بها والعريقة مع الطلبة غير القادرين على الانضباط في دراسة جامعية نظامية بفتح مسار التعليم بالانتساب. كان الطالب لا يبذل ما يبذله قرينه من حضور وواجبات وتكليفات. ويكتفي فقط بتقديم امتحان نهائي يعتمد على حفظ كم كبير من المعلومات. وكان الاثنان «المنتظم والمنتسب» يتساويان في الحصول على الشهادة ذاتها من الجامعة ذاتها بمسميات مختلفة. وأظن أن كثيراً من تلك المسارات قد تم إغلاقها. هذا مثال قديم نسبياً...

في السنة الثالثة من دراستي للدكتوراه تعقدت أمور إنجازي للأطروحة. شعرت أني ورطت نفسي في موضوع طويل وشائك ومتفرع، مع مشرف «جليل وفاضل» غير متساهل في قبول ما أقدمه له. فسعيت لتمديد البعثة والتفرغ الدراسي عاماً كاملاً. وبالصدفة يقترح علي أحد الأصدقاء أن «أهون علي» وأن أطلب من أي من أساتذة الجامعات والبروفيسورات العرب الذين شردتهم الحروب وألجأهم الحال إلى كل محال، أن يتمم لي إنجاز أطروحة الدكتوراه مقابل «3000» دولار. وبين لي الصديق أن هؤلاء الأساتذة معروفون وعناوينهم معروفة وقد تم التعامل معهم بنجاح. طبعاً رفضت عرض الصديق، لكن ظل كلامه باقيا في ذاكرتي، إذ إن تجارة رابحة في بيع الأبحاث والأطروحات ينتعش سوقها يوماً بعد يوم، وتستثمر في ذلك أزمات الشعوب ومصائبها. بالتالي، علينا أن ننتبه إلى بعض الذين يدرسون في جامعات معترف بها، و«يضبطون» بعض أساتذة المواد، والمشرف على الأطروحة، وتجار الإنجاز الأكاديمي. فهؤلاء «المضبطين» مزيفون بدرجة أخطر من مزيفي الاعتمادية، لأن كشفهم شبه مستحيل، ولأنهم يباهون علينا بتخصصاتهم وبتصنيف جامعاتهم، وبتقديراتهم العالية. كما أن مستوى الأطروحات المُجازة من قبل العديد من الجامعات الخاصة هي أطروحات ضعيفة وهشة تعتمد على قراءة مصادر محدودة وغير أولوية، وتعتمد المنهج الإحصائي بإعداد استبانة وتحليلها وعرض نتائجها. مما يقلل من جودتها من الجهد الأكاديمي المبذول في البحث والتحليل والمقارنة ومناقشة الأفكار والكتابة وتقييم الآراء. وهذا كله يجعل «مضمون، وجوهر، وقيمة» الشهادة الأكاديمية مزيفاً. وقد أتاحت كل الإمكانات السابقة الفرصة لتحويل قطاع شاسع من المواطنين إلى حملة شهادات عليا لا تقل عن الماجستير وبكفاءة لا تزيد عن الثانوية العامة!! قضية إدراك الزيف في التأهيل الأكاديمي والعملي قضية تتجاوز الاعتماديات، برغم خطورة الاعتماديات والزيف الصُراح. وتحول العلم والبحث العلمي إلى بضاعة عامة في سوق شعبي غدت أمراً خطيراً يهدد عدالة المجتمع وإمكانية تقييم كفاءة الأفراد فيه. إذ لم يعد كل حامل شهادة دكتوراه قادر على إعداد بحث علمي، أو تقييم موضوع أكاديمي، أو حل المشكلات العملية والحياتية بمهارات التفكير العليا. بعض حملة الدكتوراه، مثلاً، لا يستطيع كتابة مذكرة رسمية أو تقرير مختصر يعبر فيهما عن شكوى أو طلب أو يوصف قضية مهنية.