كان الأستاذ صبري سلامة رحمه الله مدرسة مختلفة في الأداء والإلقاء الإذاعي المصري والعربي، فلم يكن تعامله مع النص خطابياً كما كان سائداً في الحقبة التي علا فيها شأو المدرسة السابقة التي كان منها أحمد سعيد وجلال معوض وغيرهما من مشاهير الإعلام من من أتباع الحقبة الناصرية التي ترافق معها المد القومي ذو الصوت الهادر والخطب النارية.

حين كان صبري سلامة يقرأ نصاً سواء كان مباشراً «أي يبث على الهواء»، أو تسجيلاً تتيقن أنه قد وعى واستوعب المعنى تماماً قبل أن تقوم مخارج الحروف بالنطق عبر جهازه الصوتي الأنيق، وبالرغم من أن طبقته الصوتية كانت تقع بين طبقة الباريتون المتوسطة وطبقة التينور الخفيفة ولم يكن من الطبقات الجوفية العميقة الغليظة كطبقة «الباص» إلا أنه استطاع عبر أسلوبه الفريد في القراءة والإلقاء أن يتخطى الكثيرين من أصحاب الطبقات العريضة.

أتذكر مرة أني لاحظت قدميه كانتا تطرقان الأرض طرقاً خفيفاً حال قراءته لنشرة الأخبار فتعجبت من ذلك وسألته عن السبب فكان جوابه «إني أقرأ النشرة على النوتة الموسيقية»!

راقبته كثيراً بعد ذلك حين كان يقرأ الشعر والقصة والنصوص الأخرى في حلقة التدريب حتى علمت أنه فعلاً يجسد النص إيقاعاً، و»يقطع» النص موسيقياً كالعازف الماهر العليم بالجملة الموسيقية من أين تبدأ وأين تنتهي.

إن تعريف فن الإلقاء هو فن النطق المتنوع والتعبير بالحركة، فالنطق المتنوع يعني تكييف الصوت حسب المقامات، وإخراج الأصوات من مخارجها الصحيحة، والتعبير بالحركة يعني ما تقوم به الحواس من حركات تعبر عن المعنى كالعين واليد والرأس والأطراف «لغة الجسد»، وقد استطاع الأستاذ صبري سلامة بأسلوبه الخاص أن يؤسس مدرسته في الأداء على مبادئ فنية هي:

* الأول: إتقان مخارج الحروف من مخارجها الصحيحة بلا تحريف ولا تقعر.

* ثانياً: السلامة اللغوية التامة وعدم الوقوع في أي خطأ مهما كان بما في ذلك التخلص من الأخطاء الشائعة.

* ثالثاً: الالتزام بفنيات الأداء الصوتي والمسماة أحياناً «بموسيقى الكلام»، والمتمثلة في النبر والتركيز والتنغيم والوقف والسكتات.

* رابعاً: الفهم العميق للنص والممارسة والتدريب.

* خامساً: استبدال نبرة الخطابة بنبرة التحدث والإفضاء.

كانت هذه الركائز التي يطول الحديث بشأنها منطلقات أستاذنا في تدريب المذيعين الجدد، كما كان يحرص على إعطاء النموذج في الأداء فيقرأ النص ثم يتناوب المتدربون على أدائه وهو ينصت ويراجع ويصحح.

كان الأستاذ صبري سلامة رحمه الله مولعاً بالتراث العربي فأوغل فيه بعمق وكانت برامجه تستخرج الكنوز اللغوية والثقافية فيبثها أثيراً مفيداً رائقاً، وكان لشخصيته المصرية الساخرة أحياناً واللاذعة أحياناً أخرى والمتواضعة أحياناً كثيرة دور في إقبال شباب الإذاعيين عليه يتعلمون منه وينهلون من ثقافته بل كثيراً ما تأثر بعضنا بطريقته وأسلوبه فما استطاعوا الفكاك منه إلا بعد جهد جهيد، وقد وثقت جانباً من عطائه الثري في كتابين: الأول تدريب المذيع في 1995، والكتاب الثاني الإلقاء فن عربي في 2005. إن في سيرة وذكرى هؤلاء الرواد من الإذاعيين الكبار حاجة ماسة لأجيالنا الشابة ممن يمارسون فن القول وفنون الكتابة كي يستخلصوا هذه المبادئ ويحسنوا استيعابها وتطبيقها في مسيرتهم المهنية التي لن تستقيم إلا بالمعرفة الرصينة والممارسة الدؤوبة، ومتابعة سير النابغين والناجحين.

رحم الله أستاذي صبري سلامة أول من علمني الحرف الأول في فنون الإلقاء.