نُفاجأ كثيراً بما يحمله الصغار من أفكارعنا وعن عالمنا، المفاجأة لأننا نعتقد أن صورنا الذهنية انتقلت لهم عبر الجينات، وما نعتقده نحن نظن أنه هو ذاته ما يعتقده الصغار، إلى أن يصدمونا بصورة ذهنية غريبة كوّنها عقلهم، هي أذكى لكنها مرهونة بما عايشوه من تجربتهم الصغيرة فقط.

المفاجأة متبادلة، إذ حتى هم يفاجؤون بردة فعلنا الضاحكة أو المستغربة مما رسموه والإطار الذي وضعوا فيه تلك الأفكار، فهم كذلك يعتقدون أننا نحمل ذات الصورة ولا يظنون أن بها خطأ حتى يفاجؤوا بردة فعلنا.

مارلين الشغالة الفلبينية تخاطب حفيدتي نيلة ذات السنوات الثلاث بجملة عربية: (ما يصير هاللون هادي قلط).

فتجيبها نيله (do not speak Arabic it is for old people only)!! لا تتكلمي بالعربي إنها لغة العجائز فقط.

صدمتني نيله للصورة الذهنية الموجودة عندها عن لغتنا أنها أداة لا يستخدمها إلا العجايز، كالنظارة أو العكاز، ضحكت ولكنني حزنت ولا ألومها، هي محقة فلا أحد يكلمها بالعربي إلا والدتي مع الأسف حتى أنا وجدها نخلط اللغتين وأغلب ما نخاطبها به بالإنجليزي، أما البقية فيتكلمون الإنجليزي وخاصة أقرانها.

هكذا إذاً يكوّن أطفالنا صوراً ذهنية عن العالم وتثبت في عقلياتهم بحسب مشاهداتهم ولا يتاح لنا أن نعرفها إلا مصادفة حين يفصحون عنها.

فوجئت ذات مرة حين كانت ابنتي سارة وهي صغيرة تقول عبارة الفساتين كانت جميلة حين كانت الدنيا أسود وأبيض فاستوقفتها: ماذا تعنين الدنيا كانت أسود وأبيض؟

فتقول: ألم تكن الدنيا زمان غير ملونة ليس بها ألوان، صورك القديمة والأفلام كلها أسود وأبيض وكانت من عشاق الأفلام القديمة منذ صغرها.

ضحكت ولكنني فهمت أن الصورة الذهنية التي تكونت لديها عن السنوات السابقة أنها كانت كلها أسود وأبيض بحكم ما كانت تشاهده وتترجمه وفقاً لذهنيتها؛ فالصور والأفلام فعلاً كانت غير ملونة فاعتقدت ابنتي أن الدنيا كانت هكذا، ومن ثم تم اكتشاف الألوان!!

صحيح أنني ضحكت لكن الموضوع مثير للاهتمام حقاً؛ لأن لأطفالنا آلية ترجمة خاصة في عقولهم تختلف عنا ومستقلة بحد ذاتها تمتص المشاهد وتخلق لها تصورها، منطقياً جداً وذكياً جداً لكنه غريب أحياناً ولم يخطر على بالنا، وإن لم ننتبه فسنفاجأ بما رسموه عنا وعن عالمنا.

وهذا ما يثير فضولي الآن في أيام فيروس كورونا ترى ما هي أسئلتهم؟ ما هي أفكارهم وما هي الصورة الذهنية التي سيرسمونها الآن وهم في مراحل التكوين والتفكير ماذا يفكرون وأي صورة ستحفر في ذاكرتهم عن عالم الكمامات والدراسة عن بُعد وعن أصدقاء الشاشة؟ حقيقة أشفق عليهم وأكثر من أتأثر بمنظرهم وهم محبوسون في غرفهم ويكلمون مدرسيهم أو أصدقاءهم عبر الشاشات.