«ماذا يريد الغرب؟»، للوهلة الأولى يبدوالسؤال سهلاً وشائعاً والإجابة بديهية وجاهزة. إلا أننا لو أمعنا النظر في السؤال لمحاولة الإجابة بشكل منهجي، سنجد من الضروري أولاً معرفة ما هوالغرب؟ هل المقصود الغرب الجغرافي أم الحضارة الغربية؟، وإذا كان المقصود الحضارة الغربية، إذاً ما هي الحضارة الغربية؟ وما هي مكوناتها؟ وكيف نشأت؟ وما هي الأبعاد الفلسفية للحضارة الغربية؟ وهل هناك اليوم شيء يسمى الحضارة الغربية؟ وما هي مكونات الحضارة بشكل عام؟

هناك مسألة أولية مهم إبدائها قبل محاولة تسليط الضوء حول المفهوم العام للحضارة الغربية، هوأن كل أمة مسؤولة عن نفسها وعن مشاريعها الحضارية وإثبات نفسها بين الأمم، وعليها أن تخطط لحاضرها ومستقبلها بما يتماشى مع فلسفتها الحضارية وأمنها الاستراتيجي، لأن افتراض أن الغرب سبب دمارنا فيه تسطيح مخل للأمور، كذلك افتراض أن العالم ملزم أن يعاملنا بحسن نية لمجرد كوننا مسلمين فيه ذات التسطيح، وهي إجابات متسرعة لا تفيد شيئاً، كما أن هذا المقال هو أقرب لمدخل متواضع لعلم الحضارات، لأنه علم له مقومات ومقدمات منهجية وتفاصيل كثيرة، ولست متخصصاً فيه، لكنه بالتأكيد مهم أن يكون هذا العلم يوماً من الأيام منهجاً دراسياً في مدارسنا وجامعاتنا، حتى لا يتوه الفرد ويفقد توازنه عندما يحتك بالحضارات أوالثقافات المختلفة حول العالم.

اختلف المؤرخون أمثال «ويل ديورانت» أو «خزعل الماجدي» وغيرهم كثر، على تحديد العناصر المكونة للحضارة وعددها وماهيتها، والمقصود بالعناصر هنا، تلك الشروط إذا توافرت عند شعب من الشعوب نكون أمام حضارة مكتملة الشكل والمضمون، مثلاً، كالحضارة السومرية والمصرية القديمة والهندية والصينية والرومانية والمسيحية والإسلامية. كما يتفق المؤرخون على أن هناك عناصر مادية وأخرى معنوية إذا اجتمعت خلال فترة تاريخية معينة عند شعب من الشعوب نكون أمام حضارة مكتملة المعالم. والحضارة الغربية لا تشذ عن هذه القاعدة، فهناك مكونات معنوية مثل الثقافة والفن والدين والأخلاق، ومكونات مادية مثل الكتابة والنظام الإداري والسياسي والعمارة. سنسلط الضوء على الجانب الثقافي من الحضارة الغربية، وهذا الجانب بدأ بالتشكل من اليونان والفلسفة اليونانية متداخلاً مع اللاهوت المسيحي، فالفلسفة اليونانية يقدر ظهورها تقريباً 500عام قبل الميلاد، وأصبح للاهوت المسيحي صدارة المشهد السياسي لحظة إعلان الإمبراطور «قسطنطين العظيم» كما يسمى «المولود 272م – والمتوفي 337م» اعتناقه المسيحية وكانت أول دولة ونظام سياسي في التاريخ يعتنق ديانة توحيدية. بالتأكيد هناك أحداث وأفكار كثيرة لكن المجال لا يتيح سردها في سطور معدودة، لكنها قصة تستحق القراءة والاطلاع بدون شك.

فبعد أن أصبحت إمبراطورية «قسطنطين العظيم» تعتنق المسيحية بات الغرب الثقافي يتشكل من داخل اللاهوت المسيحي، فكانت الكنيسة تتبوأ دور الصدارة في المجتمع سياسياً وثقافياً. بعد ذلك بثلاثة قرون تقريباً دخلت الشعوب الأوربية عصر ظلامها للفترة الممتدة بين حوالي 600م إلى 1453م، الظلام تعبير مجازي عن انعدام الأمن والأمان والمجازر المروعة التي ارتكبتها الشعوب الأوربية بين بعضها باسم الدين أوالمذهب أوالعرق، ما أدى لفتور صوت العقل وتفشي التخلف في شتى المجالات، وما كان يزيد البلاء على الأوربيين ما كانت تروج له الكنيسة من خرافات ومحاربتها لكل صوت مختلف بالقتل والملاحقة والاتهام بالهرطقة، فضلاً عن القتل على الهوية في أبشع صورة شاهدها التاريخ البشري. إلى أن نأتي لتاريخ مهم ففي 1453م افتتح المسلمون حصن القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية آنذاك، على يد السلطان العثماني محمد الثاني الملقب «بالفاتح»، هذا الحدث هز أركان القارة الأوربية منذراً بأن هناك خطراً قادماً من الشرق يتفوق عليهم في القوة الحربية والتكنولوجيا والتنظيم، لذلك فتح المسلمون للقسطنطينية مهد إلى ظهور حركات إصلاحية في القارة الأوربية على مختلف الأصعدة والجبهات، لتفادي الاكتساح الإسلامي الذي بات يهدد الأمن الإستراتيجي للقارة الأوربية جمعاء. فنلاحظ مثلاً أنه بعد فتح المسلمين للقسطنطينية بأربعة عقود أي في 1492م سقطت الأندلس وسقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين في أوروبا، وبدأت محاكم التفتيش بملاحقة المسلمين وإبادتهم بأبشع الصور بعد قرون من الحكم والتواجد الإسلامي في الأندلس. وتزامن مع كل ذلك ظهور الحركات الإصلاحية المسيحية في أوروبا، مثل محاولات الراهب مارتن لوثر ورسالته الشهيرة في مواجهة بيع الكنيسة صكوك الغفران بمقابل مالي، وبدأ كذلك ما عرف بعصر النهضة الأوربي، من أهم أعلام هذا العصر ليوناردودافنشي ونيكولاس كوبرنيكوس، وأخذ يبرز كذلك دور المفكرين والفلاسفة، ليعلن مرحلة جديدة من منهج التفكير الأوربي على يد الفيلسوف رينيه ديكارت في القارة الأوربية والفيلسوف فرانسيس بيكون في الجزر البريطانية، وكانت هذه بداية نزعتين فلسفيتين العقلية عند ديكارت الملقب بأبوالفلسفة الحديثة والتجريبية عند فرانسيس بيكون أبوالثورة الصناعية. وإلى لقاء آخر مع بقية القصة ومحاولة مقاربة سؤال «ماذا يريد الغرب؟»، في المقال القادم بإذن الله تعالى.