غالباً ما نسمع عبارة «خطوط المواجهة الأولى» في سياق الحديث عن النشرات الحربية. ويقصد بهم، في العادة، الجنود الذين يقفون في الصفوف الأولى أمام العدو، فيكونون أول من يتلقى الضربات النارية. هؤلاء تكون فرص نجاتهم غالباً محدودة، فإما يقتلون مباشرة، أو يتعرضون للإصابات. وفي معركة البشرية مع فيروس كورونا «كوفيد 19» تغير مفهوم المعركة وتغيرت عناصر مواجهة الفيروس. وهذا التغيير يلقي بظلاله على قيم القرن العشرين الاستهلاكية التي اتخذت طابعاً أكثر تطرفاً في القرن الحادي والعشرين.

تناقلت وسائل الإعلام العالمية صوراً ومشاهد متعددة للأطباء والممرضين وهم يواجهون فيروس «كورونا» الذي لم تكتمل معالمه بعد. أطباء منهكون، حفرت الكمامات خطوطاً عميقة في وجوههم. آثار الإعياء بادية عليهم وهم مستلقون في أروقة المستشفيات أو بعض الكراسي لأخذ قسط اضطراري من الراحة. بعضهم اضطر إلى أن يهجر عائلته تحسباً لنقل عدوى الفيروس لهم. ممرضات يغادرن المستشفيات بعد دوام طويل وشاق ليتفاجأن بالمحال مغلقة ولا يجدن طعاماً يسد جوعهن. كوادر طبية في أفضل مستشفيات الدول المتقدمة تعاني من نقص المعدات الوقائية التي تحميهم من العدوى. وفضلاً عن كل ذلك.. فإن الطواقم الطبية هم المهددون «رقم واحد» بالعدوى والمعرضون للموت بسبب الفيروس. وتقديراً للدور «الفدائي» الذي تقوم به الكوادر الطبية في الحرب الضروس مع «كوفيد 19»، وقف الجميع في كل دول العالم دقائق تصفيق وتشجيع لهم، تعبيراً عن الامتنان العميق لبذلهم أرواحهم وسلامتهم وسلامة أسرهم في سبيل إنقاذ حياة الآخرين.

تاريخياً.. الأطباء هم أحد صفوف المواجهة في الكوارث الذين لا يلقى الضوء عليهم. الاهتمام بهم في جائحة «كورونا» سببها أنهم دون سواهم يمثلون جيش المقاومة الأكبر. ولكن الأطباء يوجدون في الحروب والنزاعات والكوارث الطبيعية بشكل مستمر. ويتعرضون للمرض والموت، أو القصف الحربي الخاطئ أو المتعمد. أو يتعرضون للتفجير أو القتل في عمليات إرهابية تطال المستشفيات والمواقع الطبية. تفاصيل العمل الطبي ليست كما تبدو وظيفة راقية بملابس مميزة وفي موقع عمل ذي إمكانات أفضل من غيره. إنها مهنة تتطلب دراسة وتطويراً للذات شاقاً ويستهلك سنوات العمل كلها، وقد تتحول إلى مهنة خطرة تودي بحياة صاحبها، تماماً، كالجندي في ساحة المعركة أو العامل في المصانع الخطيرة.

الأطباء ليسوا وحدهم من يتوجب عليهم إكمال مسيرة المجتمع التي تعطل ما يقارب «70%» منها بسبب الجائحة. المعلمون والقائمون على أنظمة التعليم البديل كذلك، ورجال الأمن، وبعض الوظائف الحساسة والأساسية، التي لم تتربح من نتائج اجتياح الفيروس. هؤلاء لا يمكن تعطيلهم أو إيجاد بديل عنهم. وهؤلاء يواجهون الفيروس المجهول وجهاً لوجه وهم الأكثر تعرضاً اليوم لخطر العدوى. ولكن هل هؤلاء العاملون، وفي الأوضاع المستقرة، هم موضع تقدير واهتمام من المجتمع قبل الحكومات؟!

في الفترة الأخيرة برزت بعض المقارنات التي تبين الفارق المهول بين أجور الأطباء والممرضين، وأجور لاعبي كرة القدم والفنانين والفاشنستات. وبرز سؤال مهم: هؤلاء الذين جنوا الملايين من حب الناس ومتابعاتهم وأموالهم، ماذا قدموا للبشرية في هذه الكارثة العالمية؟ كم شخصاً منهم تبرع لبناء مركز طبي أو توفير معدات طبية؟ كم شخصاً منهم انضم لصفوف المتطوعين لدعم الحكومات في مواجهة الفيروس؟ كم شخصاً منهم تتبع احتياجات الذين تضرروا مادياً ومعنوياً من الفيروس؟ ويوازي تلك المقارنات مقارنات أخرى مع التصنيع العالمي. ماذا استفاد العالم من مصانع السلاح الجبارة التي جنت المليارات يومياً من حصد أرواح الناس؟ ماذا سيستفيد الناس اليوم من الصناعات المترفة للسيارات والطائرات والأزياء العالمية والعطور وغيرها من الكماليات التي تستنزف نصيب الأسد من ميزانيات الأفراد؟ العالم اليوم يتصارع على الكمامات الرخيصة وسهلة التصنيع. يبحث عن المعقمات وإسطوانات الأكسجين والقفازات والملابس الواقية. الطعام قد ينفد بسب تعطل خطوط المواصلات في العالم، وسط اتجاه عالمي أهمل الزراعة المحلية والتصنيع الغذائي البسيط والمتوسط مقارنة بالاستثمارات والمضاربات وتجارة الفنادق والمهرجانات!! هناك شح في الاحتياجات الأساسية وفائض معطل.

ثبت عملياً بما لا يدعو مجالاً للشك بأن حياة الإنسان لا تقوم إلا على الغذاء والصحة والتعليم والأمن. وأن واجب كل دولة أن توفر ما سبق ذكره محلياً تحسباً لظرف تحاصر فيه لأسباب ليس منها قيام حرب عسكرية. فإذا ما انقشع ضباب فيروس «كورونا» ورحل، ولم يتعظ البشر من هذا الدرس، فهل سيستحقون فرصة أخرى للتعلم؟!