من الواضح أن التحولات البنيوية الراهنة قد مست التكوين الثقافي العربي، ومن الطبيعي أن يحدث ذلك اهتزازات وتبدلات في الرؤى والمواقف وفي الأنماط الفكرية والثقافية والفنية. فمفهوم الثقافة نفسه آخذ في التغيّر، وفي بلورة رؤية تختلف عما عهدناه. حيث قام مفهوم الثقافة في الماضي برمته على قاعدة الكتاب، وارتبطت الثقافة العربية بسلطة الكتاب، وساد هذا المفهوم ما طويلاً، وارتبط وعي جيل الثقافة عبر الكتاب بإدراك الثقافة في أجناسها المحددة، وعبر قنواتها المألوفة فقط. ولذلك عندما كنا نتحدث عن الشعر مثلاً، كان علينا إحصاء الدواوين المنشورة، وعندما نتحدث عن القصة كان علينا أن نحصي أعداد القصص وأعداد القصاصين والروائيين. والمشكلة أننا مازلنا إلى اليوم نبحث عن هؤلاء داخل قوالب ومفاهيم وأسس ثقافة تغيّرت.

فإذا نظرنا إلى المسألة على صعيد الشعر مثلاً، فإننا نظفر بصعوبة على نصوص شعرية جديدة تماماً يمكن أن تشدنا من خارج السياقات المعتادة مهما حدث من تحولات بنيوية في الشكل، ربما باستثناء تجارب قليلة لأنها متجددة بطبيعة تكوينها: فقد انفتح النص الشعري منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي على جميع الفضاءات والأجناس الأدبية، ثم تشظّى في جمل شعرية متوترة في عدد كبير من الفنون الأخرى، كاللوحة التشكيلية والخط العربي والرواية والقصة والمسرح والسينما، حتى بعض النقد الأدبي صار أقرب في بعض الأحيان إلى النصوص الإبداعية.

وإذن فإنه لم يبقَ من الشعر الذي نتحدث كنا عنه إلا القليل، بعد انتهاء مرحلة الأمسيات الشعرية الكبيرة التي كانت معهودة في الفترات السابقة، وتجمع الجمهور وتجلب التصفيق. ولعل هذا التحوّل استشعره، بشكل مبكّر، وضمن تجربته المتجددة الشاعر قاسم حداد، عندما فتح له موقع «جهة الشعر» قبل أن يقوم بغلقه لأسباب أعلنها في حينه. فالتحول الرقمي يتيح القدرة على الإنتاج، فأنت الذي تطبع عملك وتخرجه، بجميع عناصره، هذا فعل جديد يقوم على امتلاك جميع أطراف العقل الإبداعي. إنه الاكتفاء الذاتي إبداعياً من دون الحاجة إلى سواك عبر التكنولوجيا الرقمية. بل وحتى الجمهور فأنت يمكنك أن تنتقيه. ولذلك بدا الجمهور بالمفهوم التقليدي يتراجع، ويتحول إلى الشكل الافتراضي، بعد أن انتهى تقريباً في صورة الشارع وصوت الشارع.

وأكثر من ذلك لم تعد الكلمة المكتوبة «لوحدها» المقدّمة قادرة اليوم على الوصول بذلك الاطمئنان القديم وبتلك الهالة السابقة، إذ لعبت هذه التكنولوجيا–التي هي في طورها لطي صفحة الكتّاب لا محالة-دوراً في تغيير اتجاهات الثقافة بشكل عام، حيث انتهت حتى تلك الحواجز النقدية على النص، فأصبح الكل يكتب وينشر من دون حدود أو قيود تقريباً، خاصة بعد أن مصطلح الشعر ومفهوم الشعر يعاد النظر فيه بشكل مضطرد، في ضوء التحولات التي تكاد تنسف كل شيء تقريباً.