حينما كنا في المرحلة الإعدادية، كنا نلعب كرة القدم عصرية كل يوم في الحي، بالبحريني في «فريجنا»، وكان كراج جارنا العم العزيز الأستاذ الإعلامي محمد إسماعيل يتحول تلقائياً إلى مرمى، نادراً ما كان ينزعج من «الصلخ» الذي يتعرض له جرار الكراج الحديدي.
حمد ابنه الأوسط الحارس الذي يتحدانا أن نسجل عليه، ونحن نتقاتل على الكرة أنا وشقيقه الصغير إسماعيل وأبناء عمه الراحل الغالي حسن إسماعيل الأعزاء محمود وشريف، بينما ابن محمد إسماعيل الأكبر، فقيدنا الغالي الدكتور يوسف محمد كان يهرب منا حاملاً كتاباً في يده، وحينما كنت أقول له: «يوسف تعال العب كورة معانا»، كان يبتسم وهو يبتعد بهدوء ويقول: «عندي كتاب أقراه».
شريط ذكريات ثقيل يمر، تبرز منه تفاصيل عديدة، وكيف بات يوسف على كل لسان حينما غنى لمنتخبنا الغالي الأغنية الشهيرة «هذا البحريني ما تغلبونه»، وقتما كان الأحمر البحريني يرعب الكبار في آسيا، ويسطر ملاحم كروية لا ينساها عشاق الرياضة البحرينية، وبات صوت يوسف وهو يقول «هذا البحريني» والجمهور يردد بأعلى صوت «ما تغلبونه» الجملة الأعلى صوتاً، والأقوى تأثيراً، والأكبر في تحريك مشاعرنا الوطنية.
يوسف المجتهد في دراسته، البار بوالديه براً غير عادي، منذ صغره كنا نراه «منبعاً للطيبة» والإنسان الذي يتفق على حبه الجميع. ورغم أننا في سن واحد، إلا أن هدوءه وحكمته في تدبير الأمور، جعلتنا نعتبره المرجع في أي مشورة أو سؤال معني بالإعلام أو التعامل مع الآخرين.
أوجع الكلام الذي تكتبه، هو ذاك الرثاء فيمن عشت معه عقوداً طويلة، وربطتك به علاقات مختلفة في بواعثها، وإن ألهتنا الحياة بمشاغلها عن بعض، إلا أنه كان يكفيك معرفة بأن هذا الإنسان موجود دائماً حينما تحتاجه أو تبحث عنه. هذا يوسف الذي أحبه كل من تعامل معه، والذي أحبه كل من سمع عنه، والذي رأينا مشهد وداعه المهيب بالجموع الحاشدة الحاضرة، جموعاً تتحسر على رحيل مبكر لقامة إعلامية وطنية، رجل تراب البحرين لديه أغلى من أي شيء، رحل سريعاً تاركاً خلفه إرثاً تاريخياً ووطنياً كبيراً، والله «يعجز» عن مقارعته كثيرون، وتاركاً مستقبلاً في العمل الإعلامي الوطني كان سيكمله ويبدع فيه، وهدفه «البحرين وحدها» ولا شيء آخر.
يوسف الإعلامي حتى النخاع، الأكاديمي المحب للعلم، والإنسان «المعطاء» الذي كان لا يبخل بـ»نقل المعرفة» للآخرين، و«المبادر» بلا تردد لعقد الفعاليات والدورات والورش طالما تخدم الوطن وأهله الطيبين.
ابن بار، ووالد رائع لأبناء هم قمة الأدب والأخلاق والتربية الحسنة، قلبه الواسع شبيه لقلب والده الطيب المبتسم دائماً «بويوسف» أمده الله بالصحة وأطال في عمره، ومعدنه الأصيل مشابه لعمه الذي بكته البحرين قبل شهور في مشهد ذكرنا به رحيل يوسف، وأعني الإنسان الطيب الذي لا يتكرر حسن إسماعيل رحمه الله.
في فمي ماء، وفي حروف قلمي أثقال، وأنا أكتب عن رحيل مباغت لأخ وصديق ووطني مخلص وكفاءة متفردة في تميزها، فخسارة من هم بيننا على «هيئة ملائكية» وذوي «مواقف وطنية» وأصحاب «أثر إيجابي»، لهي خسارة فادحة لا تضاهيها خسارة، فبحريننا الغالية التي نفدي ترابها، بحريننا المحفوظة والمصانة في قلب وعين جلالة الملك المعظم والدنا حفظه الله ورعاه، تحتاج لكل ابن مخلص متميز مبدع، يشهد له التاريخ الوطني ولن ينسى ما قدمه وبذله لأجل وطنه وملكه والشعب البحريني الطيب.
لم يؤلم رحيل «بومحمد» البحرينيين فقط، بل صدى الألم تردد في أنحاء الخليج، والوجع عبر عنه كل من عرفه والتقاه و«جربه»، نعم «جرب معدنه الأصيل»، و«جرب الطيبة» على حقيقتها المتجردة من الادعاء والتجمل، فيوسف لم يكن شخصاً يحب الصدام والجدال والتوتر، نادراً ما كان يحزن، كان «حمامة سلام» بحق، واسألوا من عرفه.
لن تسعفني الصفحات لأوفيك حقك، لكنني أقول بألم، الطيبون دائماً يرحلون مبكراً، ولعلها حكمة من المولى العلي القدير، حكمة يريد بها أن يرفعهم طاهرين مغفوراً لهم إلى جواره، وأن يبين للناس تجسيد حديث رسولنا حينما قال -بما معناه- إن أحب الله عبداً كتب له القبول في الأرض، وقبل ذلك يكتب له القبول في السماء لأن الله يحبه.
رحمك الله، وأسكنك فسيح جناته، وألهم أهلك ومحبيك الصبر والسلوان، وحفظ أبناءك وجعلهم امتداداً لطيبتك ونقائك. وأطال الله في عمر من أسماك يوسف على نبينا الصديق، ومسح على قلبه، إذ كأني به يتذكر قول نبينا يعقوب في الكتاب المبين: «يا أسفا على يوسف». ولكن يوسف عند رب رحيم.