تذهب لشراء جهاز من أحد المتاجر، فيقابلك البائع «العربي» مرحباً بك ويأخذك إلى الجهاز ويقول لك (خليني أكلمك عن الـ«Options» اللي في الجهاز)، ويسترسل بالعربية، ثم يقول (هذا لأن الجهاز فيه «High sensitivity») تذهب في اليوم التالي إلى عملك، فيتصل بك زميلك ويقول لك: (تعال إلى الـ«Meeting room» عندنا «Urgent meeting») خلال الاجتماع زميلك الآخر المتحدث باللغة العربية «على مضض» يتوقف عن الحديث بعد لحظات لأنه احتار في مفردة، ثم يقول: (هي كلمة «Ability» شنو بالعربية؟) فيتنادى بعض «الشطار» باللغة العربية ليسعفوه بقولهم «قابلية».

هنا تشعر أن من تستمع إليهم تربوا في أحضان السيدات الفاضلات القادمات من البيوتات العريقة في شوارع ستراند وأكسفورد في لندن أو برودواي في نيويورك، فأخذوا ألسنتهن، أو أنهم ممن أكمل الجزء الأكبر من دراسته في الدول الناطقة بالإنجليزية أو في مدارس أجنبية ولم يختلط بالعرب، لكنك تتذكر أنهم من أمهات عربيات وأتموا دراستهم في مدارس الحكومة العربية، عندها تدرك أن لغتك الأم في بلدها وبين الناطقين بها باتت على الرف، فكثير من أهلها يهربون منها إلى أحضان الإنجليزية، لا لعلة فيها، ولكن بحثاً عن «البريستيج» ظناً منهم أنهم بهذا الإدخال في اللغة سيكونون في طبقة أخرى.

لنكن موضوعيين وصريحين، لاشك أن الإنجليزية اليوم هي لغة العلم بلا منازع، وهي مفتاح فرص العمل والتطور الذاتي والابتكار والبحث العلمي، والتكنولوجيا الحديثة، كما كانت لغتنا في العصر الذهبي الماضي لغة العلم، ولم تعد كذلك اليوم، ولاشك أيضاً أن من يجيد اللغة الإنجليزية، يمتلك جواز المرور لطموحاته، وعليه، من البديهي أن نشجع على تعلمها وإتقانها، فهي قطار لا مفر من ركوبه، لمن يريد الاستمرار ومواكبة العمل والتقدم التكنولوجي المرتبط به في العالم، وفي الوقت نفسه علينا ألا نسمح لهذا القطار أن يسحق لغتنا الأم، فهي ليست مجرّد أداة للتخاطب إنما هي ركيزة أساسية من ركائز هويتنا الثقافية، وبنفس الموضوعية والصراحة، أقول مهما كنت متمكناً من اللغة الإنجليزية ولديك القدرة على استخدام مفرداتها، لا تتوقع وأنت تتحدث بها مع العرب وتنقل إليهم أفكارك ستصل بتأثيرك عليهم الحد الذي تصل إليه باللغة العربية، فالتعبير باللغة الأم يلون أفكارك بتفاصيل لا تتمكن منها اللغة «المستأجرة».

كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ المسألة ليست حديثة كما يبدو في ظاهرها، فجذورها ممتدة لعشرات السنين، بدأت ومازالت على شكل هجمات «فكاهية» يصدرها ممثلون عندما يتحدثون خلال مشاهدهم باللهجة الدارجة ثم يدخلون عليها العبارات والجمل باللغة العربية الفصحى، ليسخروا، منها، ويبالغوا في التحدث بها، فيصورونها وكأنها لغة الكائنات الفضائية، وليست لغة البشر، ناهيك عن إظهار الأبطال بطريقة عصرية وهم يحشرون الإنجليزية في لغتهم، بينما يظهرون شخصية الساذج والمتزمت تتحدث العربية فقط، وهي معركة خاضتها السينما والمسرح والتلفزيون لعقود، في مشاهد تحمل رسالة واضحة وواحدة مفادها، أفل نجم اللغة العربية الفصحى ولم تعد تصلح إلا للهزل والمزاح فقط، هذه الأعمال الفنية تُقدّم تحت عنوان الفيلم «العربي» والمسرحية «العربية» مع أنها ليست أعمالاً عربية مشتركة وتتحدث بلهجة محلية دارجة واحدة، ومع ذلك تسوّق على أنها عربية، لتكون المحصلة «وشهد شاهد من أهلها».

التأثير السلبي لهذا الأمر ظهر بشكل واضح على تعريب العلوم، فجعله يبدو وكأنه محاولة بائسة، فكلما فكر أحدهم بتعريب المصطلحات العلمية يتبادر إلى ذهنه حالة الاستخفاف باللغة العربية التي قدّمتها تلك الأعمال الفنية، فيستخفّ ويستهزأ بكل كلمة عربية عرّبت مصطلحاً إنجليزياً، ثم يقول لا يمكن تقديم هذه المصطلحات بالعربية.

لنتقن الإنجليزية، ولننتفع من كونها لغة العلم، دون أن نجعل ذلك على حساب لغتنا الأم.

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية