قبل أيام كنت في نقاش مع أستاذ جامعي ذي ثقافة واطلاع؛ وسألته رأيه حول أسباب تحول الإنترنت من منصة واعدة للتعلم والتواصل إلى مساحة يغلب عليها المحتوى السطحي والمضامين التافهة؛ كان رأيه أن الأمر يشبه تماماً أن تطعم عقلك يومياً طعاماً فاسدًا، ففي البداية قد يبدو ممتعًا، لكنك تدرك بعد فترة أنك تفقد شيئًا ثمينًا؛ وهو قدرتك على التفكير بوضوح وعلى الاستمتاع بالجمال الحقيقي للمعرفة.
تذكرت هذا الحوار وأنا أقرأ خبر اختيار معجم أكسفورد كلمة «تعفن الدماغ» لتكون كلمة العام 2024، والذي عرفته الجامعة بأنه «التدهور المفترض للحالة العقلية أو الفكرية للشخص، خصوصاً نتيجة الإفراط في استهلاك المواد التي تعد تافهة أو غير صعبة»، في إشارة إلى المحتوى عبر الإنترنت بشكل خاص.
وفي رأيي أن الكلمة قد تبدو صادمة، لكنها تفسير ما يحدث لنا اليوم؛ انحدار تدريجي في قدراتنا العقلية بسبب الاستغراق المفرط في محتوى سطحي لا يضيف شيئاً سوى استنزاف الوقت والطاقة.
عندما تنظر إلى الطريقة التي نتفاعل بها مع العالم اليوم، تدرك أن الإنترنت تحول في كثير من الأحيان إلى ساحة منافسة للمواد السخيفة، والتي أصبحنا نستهلك ساعات من حياتنا لمتابعتها، سواء عبر آلاف من مقاطع الفيديو أو عبر في نقاشات فارغة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يعمل على تحويل أذهاننا إلى آلة تستهلك دون تفكير.
المؤسف اليوم أن تصبح «ثقافة الإنترنت» و«مواقع التواصل» بديلاً عن الثقافة الحقيقية للأجيال الجديدة، حيث كانت الكتب والنقاشات العميقة والفنون الراقية تشكل غذاءً للروح والعقل، وتمنحه مساحة للإبداع والتفكير، أما اليوم فتجد أن ثقافة «الترند» هي السائدة، حيث أصبح كل شيء سريع وسطحي ومصنوع فقط لجذب الانتباه في لحظة عابرة قبل أن يتلاشى دون أثر.
الخسارة الحقيقة اليوم لا يمكن أن تقاس، فنحن لا نفقد قدرتنا على التفكير فحسب؛ بل نفقد أيضاً الصلة مع ذاتنا ومع من حولنا من الأهل والأصدقاء والزملاء.أتمنى ألا يفهم من حديثي هذا أنه دعوة لهجرة التكنولوجيا الحديثة، وما وفرته لنا من أدوات ساهمت في إحداث نقلة نوعية في حياة البشر، عبر ما تشهده من تطورات في مختلف المجالات، ولكنها دعوة لتقنين الإفراط في متابعة ما يدمر عقولنا وعلاقاتنا وحياتنا.
لذلك لابد لنا أن نتوقف للحظة ونسأل أنفسنا؛ ما الذي نستهلكه يومياً؟ وهل هذا المحتوى يجعلنا أشخاصاً أفضل؟ وهل ما نعيشه اليوم في العالم الافتراضي يمكن أن يغنينا عن حياتنا الطبيعة وعلاقاتنا الحقيقية؟!
«تعفن الدماغ» ليس مجرد كلمة أو توصيفاً ساخراً؛ إنه تذكير قاسٍ بضرورة التوقف وإعادة التفكير في الاتجاه الذي نسير فيه، كما أنه دعوة لنعيد لعقولنا حريتها في التفكير والاختيار، قبل أن يصبح هذا «التعفن» واقعاً لا مفر منه.