المرحوم عبدالرحمن محمد عارف «أبوقدري» مصور بغدادي قديم، أسس أول أستوديو تصوير عراقي في بغداد سنة 1921، شهد ذلك الأستوديو تصوير شخصيات سياسية واجتماعية مهمة جداً، وكان من بين رواده رجل أعمى، يزور الأستوديو أسبوعياً بانتظام ليلتقط له المصور في كل زيارة صورة، لكن الغريب أن ذلك الأعمى لا يأتي بمفرده وإنما يصحب معه مجموعة من البنات، يتوسطهن وتلتقط له الصورة، والمصور أبوقدري كان يواسيه عندما يلتقط له الصورة فيقول له سألتقط لك صورة أظهر فيها عينك كأنها عين بصيرة، والرجل يشعر براحة وسعادة، وعندما يحين موعد استلام الصورة، يأتي ليستلمها ويحضر معه صديقه الذي يشرح له محتوى الصورة ووضعه وهو يجلس بين الفتيات، فيسعد وينتشي، وبقي على هذه الحالة سنة كاملة حتى اختفى بعدها.

في تلك الأيام كان التصوير فناً يدوياً يستوجب تدخل المصور لإجراء بعض التعديلات، وصاحبنا الأعمى عاش وهماً جميلاً باختياره واستخدم صديقه ليطل منه على العالم كما يستخدم النافذة، إلا أنه بعد كل تلك السنين الطوال وبقفزة طويلة من ذلك الزمان إلى زماننا نجد أننا في زمن يشبه ذلك الزمن، فأغلبنا من العميان زبائن «أبوقدري»، كلنا نجري خلف صور زائفة على وسائط التواصل الاجتماعي، صور لا تعكس حقيقتنا ولا طبيعة حياتنا، إنما تظهرنا في حياة مثالية، البسمة لا تفارقنا، نسافر إلى أجمل الأماكن في العالم، نأكل أفضل وأشهى الطعام، حياتنا شريط هوليودي، لكنها صورة زائفة نطبعها على حساباتنا في وسائط التواصل الاجتماعي، لننتظر بعدها تعليقات أصدقائنا وهي تصف حياتنا المثالية، فنحن كذلك الأعمى وأصدقاؤنا كصديقه الذي يصف له وضعه وهو يعرف حقيقته.

ونحن بدورنا أيضاً نرى صوراً لأصدقائنا نجدها مثالية، لكننا لم نفكر للحظة، ماذا وراء الكاميرا وكيف حاله إذا لم يكن هناك تصوير، في الواقع وسائط التواصل الاجتماعي ما هي إلا أستوديو كبير، و«أبوقدري» الجديد هو كل تطبيق مليء بالفلاتر التي تزيل عيوب الصورة، دون أن تعرض هل نحن سعداء أم أنه وهم وصورة زائفة.

التقاط الصور وحتى الحرص على إزالة بعض العيوب الظاهرة في الصورة ليست مشكلة في واقع الحال، إنما المشكلة في سعينا للحصول على المثالية التي لا يمكن تحققها، فنستخدم الفلاتر لنرى أنفسنا في حالة الكمال ونصدقها كما كان ذلك الأعمى يصدق ويفرح، وننسى أن الحياة الحقيقية ليست صورة، بل سلسلة من اللحظات الجيدة والسيئة.

ربما علينا أن نتعلم من الأعمى درساً مهماً، لقد كان سعيداً بتلك الصور لأنه لم يكن مضطراً لإثبات شيء لأحد، فقد كان يعيش وهمه بسعادة دون ضغط، أما نحن، فنحاول دائماً أن نكون أفضل، أجمل، وأكثر نجاحاً، على الأقل في الصور.

علينا أن نترك ملاحقة الكاميرا ونعيش اللحظة كما هي، بألوانها الطبيعية، دون الحاجة إلى وصف خارجي أو فلتر إضافي، فالحياة ما نعيشه، لا ما نصوره.

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية