في العديد من أرجاء العالم العربي، لطالما اتسمت العلاقة بين الحكومات وشعوبها بالتوجس والترقب. فقد اعتُبر ظهور البرلمانات والهيئات المنتخبة ذات يوم مؤشراً واعداً على النضج السياسي، ومحاولة لتحقيق توازن بين السلطة التنفيذية والرقابة التمثيلية. إلا أن الواقع سرعان ما اختبر هذا المفهوم؛ إذ واجهت الحوكمة المشتركة مصاعب اقتصادية، واحتقاناً شعبياً، وغموضاً في صناعة القرار، ووعوداً لم تُنفذ.في قلب هذا التوتر يبرز سؤال جوهري: هل يمكن إعادة بناء الثقة حين يشعر الناس أنهم غير مسموعين؟رغم وجود أنظمة برلمانية من الناحية الشكلية، كثيراً ما يتساءل المواطنون عن فاعلية تلك الأنظمة عملياً. تُعقد المناقشات، وتُسن القوانين، لكن تأثير ذلك على الحياة اليومية يبقى محدوداً. وفي لحظات الأزمات — سواء أكانت تضخماً، أو بطالة، أو قرارات سياسية مفاجئة — لا يتجه الناس إلى ممثليهم، بل نحو الحكومة المركزية، باعتبارها مصدر السلطة الحقيقي.في ظل هذا الواقع، تبدو المشاركة وكأنها إجراء شكلي أكثر منها أداة للتغيير. ومع تعمق هذا الانطباع، تتسع فجوة الشك واللامبالاة. والجمهور لم يعد يصفق.هذا الانفصال بين الشكل والجوهر ولّد حالة من السخرية الشعبية. الإيمان بأن المشاركة موجودة شكلاً لا مضموناً بات واضحاً. «يتساءل المواطن العربي» إذا كانت أصواتنا لا تغيّر شيئاً، فما جدوى التصويت؟ وما جدوى البرلمانات والبرامج إذا لم تنعكس على حياتنا؟داخل كواليس الحكومات، تدور مفاوضات صامتة، الشخصيات السياسية، من وزراء ونواب، يتنقلون ضمن مساحة رمادية: كيف يظهرون متعاونين دون أن يفقدوا السيطرة؟ كيف يشاركون في اتخاذ القرار دون أن يتنازلوا عن التأثير؟ إنها لعبة الدامة الشعبية بين المؤسسات، حيث يتوقف التقدم لا لنقص في الرؤية، بل لخوف من فقدان الموقع.في مثل هذه البيئة، تصبح الشراكة الحقيقية استثناءً. يحل الخطاب محل العمل، وتغيب الثقة في الحكومات ، بينما تتضاءل تطلعات الناس يوماً بعد يوم.في الشوارع والبيوت ومنصات التواصل، تتردد أسئلة مشروعة لا تنبع من معارضة عمياء، بل من أمل لا يزال قائماً. لماذا يبدو كل تحدٍ وطني وكأنه مفاجأة؟ أين الرؤية طويلة الأمد للتعليم والعمل والكرامة؟ لماذا تُتخذ القرارات المصيرية بمعزل عن أصحاب المصلحة الحقيقيين؟ الناس لا يطلبون المعجزات، بل أن يكونوا شركاء في تحديد المصير.هذه الأسئلة لا تُضعف الدول، بل تسعى لتقويتها. لا تُطرح للتهديد، بل للدعوة: دعوة إلى المكاشفة، إلى المشاركة، وإلى التواضع في ممارسة السلطة.الثقة لا تُستعاد عبر البيانات ولا عبر الحملات الإعلامية. بل تُبنى بالاستجابة الفعلية. تبدأ عندما يتوقف القادة السياسيون عن الدفاع، ويبدؤون في الشرح. عندما ينتقل الخطاب من المنابر إلى الحوارات المفتوحة. يجب أن تُستبدل الإصلاحات الترقيعية بالإصلاح البنيوي، وأن تُفتح القنوات بين المؤسسات والمجتمع بصدق وشفافية.الحكومات لا تُحمى من النقد أو المساءلة، بل تُثبت من خلالها. الجسر بين المواطن والسلطات لا يُعاد بناؤه بالقرارات، بل بالصدق والاحترام المتبادل والجرأة في مواجهة الأسئلة الصعبة.الخلاصةإن التحدي الأكبر الذي تواجهه بعض الدول اليوم لا يكمن في غياب المسؤولية، بل في غياب الإيمان بها. والإيمان لا يُفرض بالقانون، بل يُبنى بالتجربة. الإرث الحقيقي لأي سلطة لا يتحدد بما يُكتب عنها، بل بما يشعر به المواطن عندما ينظر في وجه دولته: هل يشعر بأنه مرئي؟ مسموع؟ محترم؟في تلك اللحظة، فقط، تبدأ الثقة في العودة.