عمارتنا تتكون من ست شقق، الست أم حسان الدرزية في الطابق الثالث، والست سهام المسيحية اللبنانية والست سعاد السورية في الطابق الثاني متقابلين «الله يسامح صاحب العمارة»، ونحن البحرينيون في الشقة الأرضية على اليمين، ويقابلنا شقة أبوعزمي الفلسطيني القادم من جنين على اليسار، كان ذلك في ستينات القرن الماضي في منطقة حولي حيث أمضيت طفولتي هناك قبل أن يُتوفى الوالد في الكويت رحمة الله عليه.

على صراع الأقليات بين الدروز والسوريين، وعلى صراع اللبنانيين والسوريين كبرت وتشكلت ذاكرتي العربية، وعلى شجارهم صحونا مفزوعين أكثر من مرة، والأدهى أننا احتفلنا أيضاً بصلحهم المتكرر أكثر من مرة!!

كان أبوعبدالله البحريني «والدي رحمة الله عليه» كبير المفاوضين ومبعوث السلام في جامعتنا، أقصد عمارتنا العربية، وفي الحقيقة كان نشطاً وفعّالاً ودبلوماسياً من الطراز الرفيع، لطالما جمع المتشاجرين أبوحسان الدرزي وزوج الست سعاد السوري وزوج الست سهام اللبناني (حقيقة لا أذكر أسماء الرجال إنما بسبب أن شخصيات زوجاتهم طاغية عليهم فهن اللاتي حفرن أسماءهم في الذاكرة).والحمد لله جميع الاجتماعات تنتهي على خير، فقد كان الرجال أقل انفعالاً وأكثر عقلانية ومنطقية.

كانت أسباب الشجار تتراوح بين شجار الأطفال وتلاسن النساء الذي لا يقف عند هذا الحد، فالاشتباك بالأيدي جزء لا يتجزأ من روتين عمارتنا (الحمد لله لم يصل قط إلى السلاح الأبيض) إنما الضرب والبوكسات وشد الشعر والسحل على السلالم من الأمور الاعتيادية بين النساء، وفض الاشتباك يقضي بتدخل كل رجال العمارة الذين يتجمّعون عند السلم الذي يشهد (الهوشة) إما بين الطابق الثاني والثالث أو بين الطابق الثاني فقط، ولطالما شاهدنا الست سعاد السورية، وهي كانت ما شاء الله (بعافية) والدم يجري في خدودها وهي تسحل الست سهام اللبنانية الرقيقة الأنيقة من شعرها، وتصيح بها (ما فشرتي) لتتدخل أم حسان بسرعة، وتأخذ زجاجة الماء من أم سعاد، حتى لا تتهور وتستخدمها في الشجار، فتسحب «القنينة» من يدها، الدروز يشدون على حرف القاف في الكلام، ثم يفض الاشتباك، ويدخل كل منا إلى شقته لتبدأ مهام المبعوث السامي لحفظ السلام في المساء، مقر الاجتماع المحايد كان طاولة في حوش العمارة الواسع يجتمع عليها دائماً (الأبضايات) مساء لتناول القهوة والشاي أو (المتة) الشراب المفضل عند الدروز.

جدول الأعمال برئاسة أبوعبدالله البحريني (لطالما كان البحريني مسالماً ومحباً للسلام، ويجنح إليها) ويتضمن استعراض أسباب الشجار في كل مرة، وكلمة من ذي الطيب وكلمة من ذاك الطيب ينتهي الاجتماع عادة بالأحضان والقبلات والوعد بصبحية شامية على سطح العمارة يوم الجمعة، وكم من صبحية أقيمت هناك!!

حيث تتنافس الست أم سعاد وأم حسان والست سهام ومعهم أم عزمي التي لا لها في الثور أو الطحين وكذلك أم عبدالله والدتي كل بأطباقه الشعبية، وعلى أصوات طبلة الدبكة تتم مراسم الصلح، وكنا كأطفال أولاد الشقق المسالمة مع أولاد الشقق المتشاجرة ننتظر هذا اليوم بفارغ الصبر (أعتقد أنها كانت من ضمن حوافز الوالد للتدخل) نظراً لكمّ الأطباق اللذيذة التي سنأكلها، فيوضع بوفيه طويل عريض عليه؛ مما لذ وطاب من الفتوش والمتبل والحمص والتبولة والمناقيش والبطاطا الحارة، نأكلها ونحن نصفق للست سهام وهي تغني «زي العسل على قلبي هواك» وهي تحضن التي سحلتها بالأمس الست سعاد!!

هكذا كانت طفولتي وعي مبكر على تقسيمات الوطن العربي وصراع الأقليات، وعلى طبيعة الشعوب العربية العاطفية التي تنفعل بسرعة، وتهدأ بسرعة وتنسى بسرعة!.