مازالت الهجرة المكثفة إلى أوروبا من بلدان إسلامية تعتبر القضية السياسية الأهم التي تقلق الشعوب الأوروبية بعد أن استشعر المواطن الأوروبي مؤخراً أن هويته الوطنية باتت مهددة وأن الاندماج الثقافي للمهاجرين في المجتمعات الغربية لم يتحقق بالصورة المأمولة.
وقد دفع هذا الحال دولاً أوروبية للتحول من سياسة استيعاب القادم الجديد والترحيب به إلى سياسة حمائية تغلق الأبواب أمام أي محاولات للهجرة إليها، والدنمارك، المملكة الإسكندنافية، على رأس هذه الدول.
فمنذ ما يسمى بأزمة المهاجرين في 2015 وهي السنة التي تدفق فيها حوالي 1,3 مليون مهاجر إلى أوروبا – العدد الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية - طالبين اللجوء السياسي وأغلبهم من السوريين وكثير منهم من أفغانستان وباكستان والعراق ونيجيريا، والمملكة الإسكندنافية تستحدث السياسة تلو الأخرى لتقنين دخول المهاجرين إليها، حتى وصلت إلى تطبيق سياسة (تصفير طالبي اللجوء – Zero Refugee). وبهذه السياسة تركز الدنمارك على إعادة المهاجر إلى بلده بدلاً من السماح له بالبقاء.
و قد اتجهت الدنمارك منذ 2022 إلى دول أخرى مثل رواندا الأفريقية للتدقيق في طلبات اللجوء بدلاً من السماح بذلك على أراضيها كما ألغت طلبات اللجوء للكثير من المهاجرين السوريين تحديداً.
ويقود هذه السياسات المتشددة تجاه المهاجرين - والتي تحظى بتأييد شعبي واسع ومباركة من أغلب الأحزاب السياسية الأخرى - حكومة رئيسة الوزراء (ميت فريدريكسن) من حزب الديمقراطيين الاجتماعيين التي تسعى أيضاً ومن خلال رئاسة الدنمارك لمجلس الاتحاد الأوروبي إلى تعميم تجربة الاستعانة بدول خارج الاتحاد للنظر في طلبات اللجوء وتؤيدها في ذلك دول أوروبية أخرى مثل مالطا وإستونيا وهولندا وإيطاليا.
وقد أدت السياسة الصارمة التي تنتهجها الدنمارك في مواجهة كثرة طلبات اللجوء إلى انخفاض الطلبات من واحد وعشرين ألف طلب في 2015 إلى ألفي طلب فقط في العام الماضي. وفي 2024 نفسها لم يعطَ حق اللجوء إلا لـ864 حالة فقط وهو الرقم الأقل منذ أربعة عقود مما يعني نجاحاً للخطوات التي تم اتخاذها في ملف الهجرة.
وقد ساهم التشديد في التصدي للهجرة في تحقيق العاصمة الدنماركية، كوبنهاجن، لقب أفضل مدينة للعيش فيها في العالم في 2025 محققة علامات شبه كاملة في الاستقرار والتعليم والبنية التحتية وذلك حسب تقرير مجلة الإيكونوميست.
وأرى أن حالة النفور الشعبي من المهاجرين التي تنتشر في أوروبا حالياً حالة متوقعة، فمهما حاول الساسة الأوروبيون في وقت ما فرض فكرة الاندماج بين المهاجر والمجتمع إلا أن الواقع أثبت فشلها الذريع وأكبر دليل وجود (غيتوهات) في كل عاصمة أوروبية لعشرات الآلاف من المهاجرين ينتشر فيها الفقر والعنف والبطالة وتعاني من العزلة الاجتماعية والاقتصادية. من جانب آخر يعيش الكثير من المهاجرين حالة من الرفض التام لواقعهم الجديد مما يدفع البعض منهم إلى الغلو في الدين كنوع من الحماية لمعتقداته، بل وتبني أفكار متطرفة في أحيان كثيرة وهو ما يشكل خطورة بالغة بلا شك على المجتمعات الأوروبية من الداخل.تحليق منفردالتناقض الأوروبي بين الأمس واليوم ليس مجرد تبدل في السياسات، بل هو اعتراف غير معلن بفشل نظريات «تعدد الثقافات» و «وعاء الانصهار» والتي تم الترويج لها وبيعها على دول العالم كوصفة للتحضر وكذلك فكرة «التوطين» للمهاجر في البلد الجديد دون مراعاة اختلاف الدين والثقافة واللغة. والمفارقة أن أوروبا التي حاولت تعليم الآخرين دروساً في الانفتاح والاندماج، وجدت نفسها في النهاية أول من يتراجع عنهما، لتطبق سياسة الإغلاق والسعي إلى حماية ما تبقى من هويتها الوطنية التي تعرضت إلى تشويه غير مسبوق.