منطق غريب جداً أسمعه من البعض الذي يشتكي من ارتفاع قيمة الغرامة المالية المحددة وفقاً للقانون (مرور أو بلدية أو تجارة أو ...) والحجة أن البحريني لا يستطيع أن يدفع هذه المبالغ الكبيرة!!

بمعنى أننا كبحرينيين سنخالف القانون إنما ليست هذه المشكلة، إنما المشكلة أن الحكومة لم ترحمنا فرفعت سعر الغرامة!! والمطلوب؟ المطلوب أن تخفض الحكومة قيمة الغرامة إكراماً للبحريني الفقير!!

هذه جديدة.. المخالفة لم توضع عقاباً للبحريني، المخالفة عقاب للمستهينين بأرواح الناس، للمتجاوزين الذين يستهينون بالقانون، وحتى الساهون منهم وغير المنتبهين هؤلاء يهددون سلامة الناس في كل الأحوال.

هذا المنطق من الخطأ حتى أن يناقش لكننا في زمن عليك أن تعيد تعريف المسلّمات، والبحرينيون تحديداً من الشعوب التي اشتهرت بالانضباط واحترام القانون داخل وخارج البحرين فما الذي تغيّر فينا؟ كيف أصبحت المخالفة هي القاعدة والالتزام هو الاستثناء؟

لنرَ معاً كيف كانت البحرين أيام زمان، وكم كانت غراماتها لتعرفوا لماذا البحرين اشتهرت بالنظام واحترام القانون.

في كتابه تاريخ القضاء البحريني يقول الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن راشد عن قوانين البلدية قبل مائة عام، «شهد العام 1919م انطلاق مشروع بلدي رائد في البحرين جعلها متقدمة على أصقاع العالم العربي كافة من أقصاه إلى أقصاه، فكانت أول تجربة في المنطقة، ففي شهر يوليو من ذلك العام أُسِّس نظام البلدية بهدف نظام صحي وتنظيمي على أُسس حديثة، وكان جهاز البلدية قد بدأ يضطلع بتنظيم الحياة العامة للناس وبالمهام الأساسية التي أُنشئ من أجلها مثل ترقيم البيوت والأسواق، وإزالة القمامة وتوسعة الشوارع، وتصريف مياه الأمطار وإقرار الأوزان الصحيحة في التجارة، والإشراف على ذبح المواشي، ولافتات تسمية الشوارع، وإجراءات الجمارك والضرائب، والإنارة للقوارب والدراجات، وطلبات تقديم العروض لبناء الطرق، وبموازاة إنشاء البلدية أُنشئ المجلس البلدي بعد عام واحد فقط، عبر مبدأ الانتخابات، وهو ما تمَّ بالفعل، إذ تمّ انتخاب عشرة أعضاء، في حين عيّنت الحكومة عشرة آخرين، وقد تَحدّد أن يكون مركز الجمارك مقرّاً لاجتماعات البلدية في بداية الأمر.

أما أيام اجتماعاتها فهي كل يوم ثلاثاء في تمام الساعة السابعة صباحاً في الصيف، والعاشرة صباحاً في الشتاء، وامتلكت أول سيارة لجمع القمامة عام 1924م وأشرفت على مستشفى الأمراض العقلية حتى عام 1936م، ثم سلّمته للصحة، وفي هذا العام أُنشئت حديقة (الباقشة).

أما بلدية المحرق فتأسست عام 1927م ...». ثم يضيف «لقد كان العمل البلدي في البداية ومنذ تأسيسه يتمتع بسلطات قضائية خصوصاً وأن أمير المدينة يحضر اجتماعات البلدية وقد أُنيطت به -إلى جانب أعماله الأخرى- مهمة مراقبة الأشخاص المشتبه بهم، كما أن قانون بلدية البحرين رقم 1 لسنة 1921م قد فرض غرامة وقدرها 1500 روبية أو السجن مع الأعمال الشاقة قد تصل إلى ثلاثة أشهر لأي شخص بحريني أو بريطاني أو أجنبي يخرق القوانين الداخلية. في شأن مخالفات النظافة أو التهرّب الضريبي حدّدت عدداً من العقوبات بموجب صلاحيات رئيس البلدية.

ومن المراسلات التي تتمّ بين إدارة البلدية والجهات الأخرى يتبيّن كيف أنها كانت تراقب الغش التجاري الذي يحصل في السوق، وتقوم بالاتصال بالمجلس التجاري (العرفي) بل والاشتراك في التحقيقات التي تجريها الشرطة مع المتورطين في عمليات الغش، خصوصاً أنها تمتلك سجلات التجار وتوريد البضائع، كذلك كانت البلدية تزود الجهات الأخرى بأسماء المشتكى عليهم في المحاكم...».

هذه الغرامة بحسبة اليوم تصل قيمتها إلى 1500 دينار وليس روبية، هل عرفتم لماذا كان أهل الخليج يقولون عن شوارع البحرين أنها من ذهب؟

تخيّلوا لو غراماتنا اليوم بهذه القيمة المرتفعة ماذا كنا سنقول؟

لم ترتقِ البحرين إلا لأن الرقابة كانت صارمة وإنفاذ القانون كان حاسماً والالتزام به واحترامه كان ثقافة شعبية عامة.

لذا فإن تطور الدولة والمجتمع لا يكون إلا حين يكون احترام القانون مسلّمة من المسلّمات عند الصغير والكبير.