في اللحظات التي تهتز فيها الأنظمة تحت وطأة المتغيرات، تصبح الدعوات الدستورية ذات الطابع السياسي أقرب إلى إعلان موقف. وعندما تصدر من رأس الدولة، تأخذ طابعاً يتجاوز الإجراء، لتصبح تجسيداً لتجديد الثقة بالعقد الوطني.
إن دعوة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه لانعقاد دور جديد لمجلسي الشورى والنواب، ليست مجرد افتتاح لدورة تشريعية، بل إعادة تموضع استراتيجي للشرعية المؤسسية، في لحظة تختلط فيها تحديات الداخل بمخاوف الأمن الإقليمي، وتبدلات التوازن العالمي.
تجديد الداخل لا بتغييره:
رغم صِغَر المساحة الجغرافية، لطالما أدركت البحرين أن صمّام الأمان يكمن في الداخل.
لكن الداخل لا يكتفي بالشعارات، بل يريد عقداً واضحاً يقوم على الشراكة لا التوجيه.
ففي ظل أزمات معيشية وتحديات اقتصادية، تبرز أهمية برلمان قادر على توجيه البوصلة التشريعية نحو العدالة الاجتماعية، لا الاكتفاء بتجميل الواقع.
ولذلك، لا تُقرأ هذه الدعوة الملكية كبرتكول سنوي، بل كرسالة ثقة بأن الحوكمة ما زالت ممكنة، وأن المواطن ليس متلقياً للقرارات فقط، بل شريكاً في صياغتها ضمن مساحة مؤسسية منظمة.
البيئة الإقليمية في الخليج تُدار على شفا هاوية: صراع في الجنوب، تمدد في الشمال، مصالح متضاربة شرقاً، وحسابات أمنية غرباً.
وسط ذلك، تسير البحرين بخطى متأنية، لكنها محسوبة. فهي لا تُصعّد، لكنها لا تتراجع عن خطوطها السيادية.
اختارت البحرين أن تحرس حدودها الدبلوماسية بحكمة، وأن تنخرط في التحالفات بما يخدم أمنها الداخلي، لا لتكون ورقة في لعبة القوى الكبرى.
وانعقاد البرلمان في هذه اللحظة، هو تأكيد على أن القرار البحريني ينطلق من داخل الدائرة الوطنية، لا من ضغط التحالفات أو إملاءات التكتلات.
العاصفة العالمية:
العالم في طور التحول. لم تعد الثنائية القطبية بين واشنطن وموسكو وحدها المتحكمة، بل مشهد معقد من التعددية المربكة.
تسارع الذكاء الاصطناعي، وتراجع سطوة الدولار، وتشرذم المنظمات الدولية... كلها عناوين لعالم ما بعد النظام القديم.
في هذا السياق، تسعى الدول الصغيرة كالبحرين إلى ممارسة سيادتها ليس بالصوت العالي، بل بالحضور الذكي.
السيادة اليوم لا تُقاس بعدد الجنود، بل بقدرة الدولة على الدفاع عن مصالحها، دون أن تفقد توازنها في عمق شبكة المصالح العالمية.
البرلمان ليس ممراً.. بل منصة:
البرلمان البحريني، في هذه المرحلة، لا يُنتظر منه فقط سن القوانين، بل توليد التصورات، وطرح الأسئلة، وتنظيم الخلاف بدل كتمانه.
فالديمقراطية، حتى وإن كانت ضمن إطار ملكي، تحتاج إلى قنوات تُظهر التباينات لا لتأجيجها، بل لتفريغ توتراتها داخل مؤسسات تملك الشرعية.
وهنا يأتي الرهان على برلمان لا يُختزل في التوصيات، بل يُبادر بالرقابة، والمساءلة، والتمثيل الحقيقي للناس في ظل متغيرات معقدة.
حجر الزاوية:
في نهاية المطاف، تُبنى الدول لا بثرائها، بل بقدرتها على تحويل الثروة إلى عقد اجتماعي عادل.
وحين تدعو القيادة إلى الانعقاد، فهي لا تدعو إلى احتفالية دستورية، بل إلى إعادة رسم الخطوط بين الحكم والمشاركة، بين الولاء والرقابة، بين السيادة والانفتاح.
إن مستقبل البحرين لا يُرسم على الورق، بل عبر تراكم قرارات عقلانية، واستثمار ذكي في الثقة، وبناء جسور حقيقية بين الدولة ومواطنيها.
فكما علّمتنا الجغرافيا السياسية، لا تعيش الدول الصغيرة بالحياد، بل بالبصيرة. ولا تُقاس مكانتها بالضجيج، بل بالثبات.
وهنا، تماماً، تضع البحرين أول لبنة في مرحلة لا تحتاج فقط إلى خطاب جديد، بل إلى معنى جديد للعمل البرلماني.