مع كل هدنة أو وقف لإطلاق النار في غزة، تتجه الأنظار نحو الحديث عن إعادة الإعمار، فتتوالى الوعود وتُعقد المؤتمرات، ويُطرح السؤال ذاته في كل مرة: «متى ستعود غزة كما كانت؟» غير أن هذا السؤال لا يلامس عمق القضية، فالمسألة تتعلق بما هو أبعد من استعادة الأبنية والشوارع، إذ تكمن المأساة في فقدان الأرواح، وتشريد العائلات، وتشويه الذاكرة الجمعية التي تتجدد نزيفاً مع كل حرب.
إن الحديث عن الإعمار صار طقساً يتكرر منذ النكبة، إذ ما إن تنتهي جولة قتال حتى تنهال التصريحات الدولية، وتبدأ الوعود بجمع الأموال لإصلاح ما دُمّر، ففي عام 2014 مثلًا، انعقد مؤتمر القاهرة لإعادة إعمار غزة، وتكررت بعده المبادرات الإقليمية والدولية التي تتعهد بترميم ما تبقّى من البنى التحتية، ومع كل مرة، يبدأ العمل وتنهض المدينة، ثم نعود لنقطة الصفر مع أول صاروخ جديد، فتعود غزة إلى نقطة البداية، في دورة دمار متجددة تُبقيها حبيسة انتظار لا ينتهي منذ النكبة.
هذا التكرار خلق ما يشبه الوهم الجماعي، إذ تحوّل الحديث عن الإعمار إلى خطاب يُغطي على الجريمة الأصلية، ويصرف الأنظار عن المحاسبة الحقيقية، فحين تنشغل العناوين بوعود إعادة البناء، تتوارى خلفها مسؤولية محاسبة من دمّر، وتتحول المأساة إلى ملف إداري يناقش في المؤتمرات، بدل أن تكون قضية عدالة وإنصاف.
وقف إطلاق النار يوقف النزيف، لكنه لا يداوي الجراح، فالحرب في غزة بجانب كونها تدميراً للبلدة وبنيتها التحتية، هي اقتلاع للذاكرة، وتمزيق للنسيج الإنساني، وإبادة لبنى الحياة في معناها الوجداني، فتحت الركام، هناك منازل محترقة، وحكايات لأطفال وأمهات وآباء، لكل منهم قصة فقدان وألم لا يختصرها رقم في بيان، وهذا الدمار هو أثر إنساني عميق يلامس جوهر الوجود نفسه.
فالاحتفاء بالصمود لا يعني تجاوز المأساة، والإفراط في تمجيد النصر الرمزي دون الإشارة إلى عمق الفقد يجرّد المعاناة من بعدها الإنساني، ويحول الضحايا إلى رموز مجردة، فغزة قبل أن تكون رمزاً للمقاومة، هي مجتمع منكوب فقد أبناءه، ومنازله، وذاكرته، والعدالة تقتضي أن يُنظر إليها بميزان الرحمة قبل أن تُروى بلسان البطولة.
ومع ذلك، وسط الركام والدخان، تتشكل سردية أخرى يتناقلها الناس عبر المنصات «غزة لم تنكسر»، وهذه العبارة تلخّص المعنى الأعمق للصمود، لأنها تعكس إرادة الإنسان الغزاوي في الاستمرار رغم كل ما واجهه من حصار، وحرمان، وتهجير، ودمار، وهذا الصمود لا يُقاس بالنتائج العسكرية المعنوية التي حققتها غزة، إنما بقدرة الإنسان الغزاوي على الاحتفاظ بكرامته وإيمانه بالحياة.
وهذه المرونة التي يظهرها الغزاويون هي إعلان عن تمسكهم بحقهم في الوجود، فكل مدرسة أعيد فتحها، وكل سوق عاد للحركة، وكل طفل يبتسم رغم الخوف، هو شكل من أشكال المقاومة التي لا تحتاج إلى سلاح، إنها مقاومة الحياة نفسها للموت، وتجسيد لقوة الروح المرتبطة بالأرض المقدسة التي ترفض الانكسار أمام آلة الحرب والاحتلال.
من هنا، لا ينبغي ألا تقتصر سردية غزة على إعادة الإعمار أو حتى على وقف إطلاق النار، فالأولويات الحقيقية تبدأ من المساءلة، ومن الاعتراف بما حدث كجريمة إبادة تستوجب العدالة الدولية، فإعادة بناء الحجر لا معنى لها من دون إعادة بناء الإنسان الذي تهشّم داخله كل شيء، والواجب الأخلاقي اليوم هو دعم هذا الإنسان، ورعاية ذاكرته، وتوثيق معاناته، حتى لا تتحول الكارثة إلى مجرد فصل جديد في سجلات الحروب المنسية.
إن غزة اليوم تمثل الضمير الإنساني الذي يُختبر أمام أعين العالم، وامتحاناً حقيقياً لفكرة العدالة الدولية، الصمود فيها يتجاوز الشعارات السياسية، فهو فعل بقاء يتحدى منطق القوة، وإن دعم هذا الصمود، وتثبيت الحق في الحياة الكريمة، وتكريس سردية العدالة وسردية أن غزة لم تنكسر، هي الخطوة الأولى نحو عالم يعترف بإنسانية الغزاويين كناجين من حرب، وكشهود على معنى أن يظل الإنسان إنساناً رغم كل شيء.