لا يحتاج المتابع للشأن الاقتصادي في البحرين إلى كثير من التحليل ليكتشف أن المعارض والمؤتمرات باتت اليوم رافداً حقيقياً للحركة السياحية والتجارية في المملكة. فهي لا تخاطب فئة محدودة من رجال الأعمال فقط، بل تلامس الجمهور العريض من مواطنين ومقيمين وزوار، وتفتح أمامهم أبواباً واسعة للتجربة والاكتشاف والشراء والترفيه. إن هذه الفعاليات تمتلك ما يشبه المساحة المشتركة بين الاقتصاد والثقافة والمجتمع، حيث يلتقي السوق بالإنسان، والمنتج بالذائقة، والعرض بالطلب، وكل ذلك في بيئة مفتوحة نابضة بالحياة.
ومن هنا تبرز قيمة مركز البحرين العالمي للمعارض، هذا الصرح الذي يمكن القول دون مبالغة إنه أحد أهم الاستثمارات الوطنية خلال العقد الأخير. ليس لأنه الأكبر والأحدث في الشرق الأوسط فقط، بل لأنه يمثل رؤية اقتصادية تتجاوز المفهوم التقليدي للفعاليات، وتدرك أن مستقبل الاقتصاد لا يصنع في المكاتب وحدها، بل في مساحات تلتقي فيها التجارة بالسائح، والعارض بالمستهلك، والفرصة بالسوق. وقد جاء تدشين المركز على يد صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله في نوفمبر 2022، وهي رسالة واضحة بأن وجود صرح بهذه الإمكانيات لم يعد رفاهاً إنشائياً، بل ركيزة استراتيجية لتحريك السوق وتنويع مصادر الدخل.
وقد أثبت المركز مكانته سريعاً بحصوله على جائزة أفضل مركز معارض ومؤتمرات جديد في العالم 2023، ثم جائزة أضخم مركز لحفلات الزفاف في الشرق الأوسط 2024، ما يؤكد أنه لا يقف عند حدود التصميم والهندسة، بل يملك قدرة تشغيلية حقيقية تؤهله لاستضافة أكبر الفعاليات وأكثرها تنوعاً. وتكفي الإشارة إلى مساحاته التي تتجاوز 104 آلاف متر مربع قابلة للتأجير، ومساحة عرض تقارب 95 ألف متر مربع، وصالة رئيسية تستوعب 4,000 شخص، إلى جانب 94 غرفة اجتماعات، لندرك أننا أمام منشأة صنعت خصيصاً لتكون قلب هذا القطاع لا هامشه.
والدليل الأقرب على الأثر لا يحتاج إلى أمثلة بعيدة. فمعرض المجوهرات، ومعرض العطور، وغيرهما من الفعاليات الأخيرة، أظهر حجم الحركة الاقتصادية التي تنتجها هذه المناسبات في فترة قصيرة. الفنادق سجلت نسب إشغال مرتفعة، المجمعات التجارية ازدادت كثافة مرتاديها، المطاعم والمقاهي امتلأت بمستويات لافتة، وتجار التجزئة عاشوا موجة مبيعات نشطة. المعرض هنا لا ينتهي بانتهاء يومه الأخير، بل يمتد أثره في السوق كله، ويتدفق في عروق المدينة من قطاع لآخر.
ولأن المنافسة في هذا القطاع لا تنتظر، فإن البحرين تمتلك فرصة حقيقية لتكون مركزاً إقليمياً للمعارض والفعاليات الكبرى على مدار العام. الإمكانيات موجودة، والبنية مهيأة، والجمهور حاضر، ولا ينقص إلا انتقاء نوعية الفعاليات التي تملك قابلية الاستقطاب والتكرار والتوسع، تلك التي لا تجذب زائراً واحداً فقط، بل تفتح أبواب تدفق سياحي واقتصادي يتوسع خلفها.
إن هذا القطاع لم يعد ترفًا اقتصاديًا، بل أحد أهم الأدوات القادرة على دعم الأسواق المحلية وتعزيز الحركة التجارية. البحرين اليوم تملك المقومات وتملك النموذج، وكل ما تحتاجه هو التوسع في الفعاليات، وتطوير محتواها، واستثمار المكان بما يليق بطاقته. وهو توجه ينسجم بوضوح مع رؤية البحرين الاقتصادية 2030 التي تعتمد على تنويع مصادر الدخل وتخفيف الاعتماد على القطاعات التقليدية.
فالمعارض ليست حدثاً ينعقد ثم يختفي، بل طاقة اقتصادية تتحرك من القاعة إلى الشارع، ومن الزائر إلى السوق، ومن الفعالية إلى مدينة كاملة. وهذه هي القيمة التي تستحق البناء عليها لمستقبل سياحي أكثر ازدهاراً، واقتصاد أكثر نبضاً، ومكانة أكثر حضوراً للبحرين في محيطها ودائرتها الأوسع.