في مشهدٍ تربويٍّ يتقدّم الصفوف، تبدو مبادرة وزارة التربية والتعليم في عقد ملتقى طلابي موسَّع يضم سبعمائة طالب وطالبة من المدارس الحكومية والخاصة، أكثر من مجرد فعالية عابرة؛ إنها رسالة دولة تؤمن بأن المستقبل يبدأ من منصّة حوار مع أبنائها، ومن إيمان عميق بأن صوت الطالب ليس هامشاً، بل ركيزة في بناء التخطيط التعليمي المستدام، فحين يجلس وزير التربية والتعليم د. محمد جمعة في صالة الوزارة بمدينة عيسى محاوراً أبناءه الطلاب، لا بصفته مسؤولاً رفيعاً، بل بصفته شريكاً في صياغة طريقهم القادم، فإن ذلك يمثل لحظة تربوية تتجاوز الفعل الإداري إلى فعل إنسانيٍّ أبويٍّ مؤثر.
يتجاوز هذا اللقاء الشكل إلى المضمون، حيث برزت أسئلة الطلبة، واقتراحاتهم، وقلقهم النبيل حول مستقبلهم، من تحسين المعدل الدراسي، إلى تطوير المناهج والبرامج العملية والبعثات والتدريب اللغوي والإرشاد الأكاديمي، ولعلّ أبلغ ما في الصورة أن الطالب هنا لم يعد مستقبلاً للقرارات، بل مشاركاً فيها، يمارس أولى محاولاته في التفكير النقدي والتخطيط الذاتي، وهي مهارات تشكّل أساس الشخصية القادرة على المواجهة والتكيّف في عالم سريع التحوّل.
إنّ الإصغاء الرسمي إلى نبض الطلبة يفتح أفقاً جديداً في فلسفة التعليم، إذ يربط بين الاحتياج الفعلي والمشروع التربوي الوطني، ويخلق جسوراً بين المدرسة والوزارة، وبين الأسرة والمسؤولية المجتمعية، فالأب أو الأم الذي يرى أبناءه جزءاً من دائرة صناعة القرار، يشعر بأن العملية التعليمية ليست مجرد امتحانات وشهادات، بل منظومة قيم تُبنى على الحوار، والثقة، والتفاعل الحقيقي، وهذا بدوره يعزّز الانتماء، ويُعيد تشكيل العلاقة بين البيت والمدرسة والوزارة في صورة أكثر نضجاً وتكاملاً.
إن هذه الخطوة تنسجم مع الرؤية المستقبلية للدولة في بناء تعليم متطور، قائم على التخطيط الاستراتيجي والتطوير المستدام، حيث تُقرأ احتياجات الطلبة من أفواههم مباشرة، وتتحول الأفكار الصغيرة إلى مداخل لمشاريع كبرى في المناهج والأنشطة والمهارات الحياتية، وهو تكاملٌ يشترك فيه المعلم، والطالب، وولي الأمر، وصاحب القرار، ليشكلوا جميعاً حلقة واحدة لا تنفصل في مسار التنمية التعليمية.
ولعل الأثر الأعمق لمثل هذه المبادرات هو ما تزرعه في نفوس الطلبة من وعي وثقة وقدرة على التعبير، وما تتركه في ذهن المجتمع من يقين بأن الحكومة تمضي نحو تعليمٍ أكثر إنسانية ومرونة وابتكاراً، فالمستقبل لا يُبنى بالقرارات وحدها، بل يُصنع حين نُشرك أبناءنا في رسم ملامحه، ونمنحهم فرصة أن يكونوا شركاء في الحلم، لا مجرد متلقين له.
وفي ختام هذا المشهد التربوي المتقدم، تتبدّى حقيقة لطالما أثبتتها التجارب الدولية: أن الأنظمة التعليمية الأكثر نجاحاً -من فنلندا إلى سنغافورة- هي تلك التي جعلت الطالب شريكاً لا تابعاً، ورفعت مؤشر «مشاركة المتعلم» إلى أكثر من 70% في اتخاذ القرار المدرسي، وخفّضت الفجوة بين الطالب وصانع القرار بنسبة تجاوزت 40% خلال عقد واحد فقط. وهي أرقام ليست للاحتفاء الإحصائي، بل للدلالة على أن الحوار هو أعظم استثمار في رأس المال البشري، وأن الإصغاء للطالب يرفع جودة التعليم أكثر من أي تعديل لائحة أو تحديث كتاب.
ولذلك، تأتي الحكمة من هذه التجربة البحرينية الباسقة لتقول: «حين نمنح أبناءنا مساحةً ليُسمع صوتهم، نصنع لهم وطناً يتّسع لأحلامهم، وحين نصغي إليهم بصدق، نصنع لأنفسنا مستقبلاً لا يخذلنا».
* إعلامية وباحثة أكاديمية