المنامة هي عاصمة مملكة البحرين وأكبر مدنها، وتمثل القلب الإداري والسياسي للمملكة، ويعود تاريخ تأسيس المنامة إلى حوالي القرن الثالث عشر الميلادي، إذ نشأت كقرية صغيرة لصيد الأسماك واللؤلؤ ثم تحولت إلى مركز تجاري هام بفضل موقعها الاستراتيجي وسط طرق التجارة في الخليج العربي، وظهرت المنامة على الخرائط العالمية لأول مرة عام 1635م أثناء الحقبة البرتغالية، حيث اتخذها البرتغاليون مقراً لهم وبنوا فيها قلعة عُرفت باسم "قلعة البرتغال".
وبعد خروج البرتغاليين في 1602م، خضعت المنامة لفترة لحكم آل مذكور حتى فتحها الشيخ أحمد بن محمد بن خليفة العتبي، الملقب بـ"أحمد الفاتح"، حين هبّ معه أهل البحرين والزبارة لتحرير هذه الأرض ومياهها الإقليمية، وتثبيت عروبتها، ودحض الأطماع الأجنبية التي تعاقبت عليها عبر قرون، وقد شكّل هذا الحدث المفصلي انتقال البحرين من مرحلة الاضطراب والتنازع الخارجي إلى مرحلة الاستقرار السياسي وبناء الدولة، لتبدأ بذلك صفحة جديدة في تاريخ الحكم الوطني.
اكتسبت المنامة أهمية خاصة مع تطور نظام الحكم والإدارة في البحرين، فمنذ تولي الشيخ عيسى بن علي آل خليفة مقاليد الحكم عام 1869، بدأت البحرين خطواتها نحو الإدارة الحديثة، فشهدت المنامة تأسيس أولى الدوائر الحكومية في أوائل القرن العشرين، وكان أبرزها بلدية المنامة التي تأسست عام 1919 كأول بلدية في منطقة الخليج العربي وثالث بلدية على مستوى الوطن العربي.
وقد مثّل إنشاء بلدية المنامة حجر الأساس للنظام الدستوري والإداري في البلاد، وصدر أول قانون مكتوب في تاريخ البحرين في 20 يوليو 1920 لتنظيم عمل البلدية، متضمناً لوائح للنظافة والمرور وحماية الحيوانات. وفي عام 1924 أُجريت أول انتخابات بلدية بمشاركة الأهالي، ولافتٌ أن المرأة البحرينية شاركت في تلك الانتخابات المبكرة، في وقت لم تكن فيه كثير من دول العالم قد منحت النساء حق الانتخاب، وكل تلك الخطوات الريادية في المنامة عززت مبدأ المشاركة الشعبية ومهّدت لبناء مؤسسات الحكم الحديثة.
ومع اكتشاف النفط في البحرين عام 1932، أصبحت المنامة مركزاً إدارياً واقتصادياً أكثر حيوية، فشهدت المدينة خلال عقد الثلاثينات طفرة في الخدمات والمرافق، حيث تأسست في المنامة أول غرفة تجارة في الخليج العربي عام 1939، كما صدرت فيها أول مجلة بحرينية وهي "صوت البحرين" عام 1949، وفي 1958 أُعلنت المنامة ميناءً حراً لتعزيز الحركة التجارية، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالبحر، إذ تشكّلت المدينة حول مينائها الطبيعي الذي مثّل بوابة البحرين إلى العالم، ومن هذه النقطة البحرية تحديداً، بدأت المنامة تتحول من تجمع سكني وتجاري إلى مركز للحكم والإدارة، حيث كانت السفن ترسو، والبضائع تُفرغ، والوفود تصل، وتُدار شؤون البلاد، ومع تعاقب المراحل التاريخية، ترسّخ دور الميناء بوصفه قلب الحركة الاقتصادية والسياسية، فصار البحر جزءاً من القرار، والميناء نقطة انطلاق الدولة، ومنها تشكّلت هوية المنامة كعاصمة ومركز سيادي.
وتُعد المنامة أكبر تجمع سكاني وعمراني في البحرين، وتحتضن مزيجاً متنوعاً من الثقافات والجاليات، ما أكسبها طابعاً عالمياً فريداً، فعلى الرغم من صغر مساحة المدينة، إلا أنها استطاعت استيعاب سكان من مختلف الخلفيات الدينية والعرقية، وتجاور في أحيائها دور عبادة للمسلمين والمسيحيين واليهود والهندوس، مما يعكس روح التسامح والتعددية المتجذرة في تاريخها، ولطالما وُصفت المنامة بـ"لؤلؤة الخليج العربي"، فقد تغنّى بها الرحالة والشعراء، وكانت ملتقى التجار والمسافرين عبر القرون.
وعلى الصعيد الثقافي الحديث، حظيت المنامة باعتراف إقليمي ودولي يؤكد مكانتها، فقد اختيرت عاصمة للثقافة العربية في عام 2012 وعاصمة للسياحة العربية في 2013، ثم عاصمة للسياحة الآسيوية عام 2014، كما استضافت فعاليات ثقافية بارزة ما كرّس دورها كمنارة ثقافية في المنطقة، ولاتزال شوارع المنامة وأسواقها الشعبية وعلى رأسها سوق المنامة القديم وباب البحرين نابضة بالحياة، تشهد على تاريخ تجاري واجتماعي امتد لعقود طويلة، فسوق المنامة القديم الذي يزيد عمره على 200 عاماً يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، وظلت أروقته ملتقى للتبادل التجاري والتفاعل بين مختلف فئات المجتمع، مما رسّخ مكانة المنامة كمركز حيوي للتجارة والتلاقي الإنساني عبر الأجيال.
وفي سياق الاهتمام بإحياء تراث المنامة وربطه بالأجيال الجديدة، جاءت فعالية "هوى المنامة"، في قلب سوق المنامة القديم، امتداداً لتجربة "ريترو المنامة" التي قُدّمت نهاية 2024 وأعادت أجواء المدينة القديمة إلى الواجهة، حين أُعلن عن تكرار التجربة وتوسيعها تحت اسم "هوى المنامة"، شعرت بفرح طفولي في داخلي، لأن هذه الفعالية تعيدني إلى المنامة التي أعرفها، وتمنح الذاكرة فرصة لتتنفس من جديد، وتؤكد أن المدينة مازالت قادرة على أن تحكي قصتها لأهلها قبل زوارها.
ومن أبرز ما تقدمه "هوى المنامة" إحياء معالم أيقونية ارتبطت بذاكرة المدينة وسكانها، وفي مقدمتها مجمع الزينة التجاري، الذي شكّل في الثمانينات أحد رموز التحول الحضري في المنامة، وواجهة لأسلوب حياة جديد جمع بين التسوق واللقاء الاجتماعي في قلب العاصمة، وكان المجمع آنذاك مساحة تعكس انفتاح المدينة وتغيّر أنماط العيش، ومقصداً يومياً لأهل البحرين بمختلف فئاتهم، ويعيد "مرسح المنامة" التذكير بحضور السينما المبكر في المدينة، حين كانت شاشة العرض جزءاً من الحياة الاجتماعية، فيما تمتد الذاكرة إلى الفرجان والملاعب عبر بطولة كرة السلة 3×3 بمشاركة نجوم الأمس، ويكتمل المشهد بمتحف "روح المنامة"، حيث تُعرض مقتنيات وصور من بيوت عائلات منامية عريقة، مقدّمة بسرد يجمع الرواية الشفهية والصورة والوثيقة، فتتحول النوستالجيا إلى ذاكرة جماعية تشبه المدينة وتُشبه أهلها.
واختيار اسم "هوى المنامة" جاء موفقاً ومعبّراً، فالاسم يحمل شحنة شعورية عميقة، ويستدعي علاقة وجدانية قديمة بين المدينة وأهلها، فالهوى هنا حالة عشق مستقرة، تشبه المنامة في حضورها ودفئها، والاسم يعيد إلى الذاكرة الأغنية الخليجية المعروفة التي كتب كلماتها الشاعر الكويتي بدر بن ناصر بورسلي، وألحان وغناء الفنان البحريني إبراهيم حبيب، تلك الأغنية التي غنّت للمنامة بوصفها عروس الخليج العربي، فغنى: هوى المنامة.. شقق ثيابي يا ولد، شلون أنا.. خله يجي عنايه، دار الهوى دار.. متى نشوفك يا حلو، ونفرش لك الدار.
إن المنامة بخليطها الفريد من التاريخ والتراث والحياة المعاصرة جوهرة وطنية ومركز للهوية البحرينية، فأزقتها ومبانيها القديمة تحكي قصص الحكام والتجار والناس البسطاء الذين شكّلوا نسيج تاريخ البحرين، وأسواقها تزخر بعبق الذكريات التي تتوارثها الأجيال، وها هي اليوم، من خلال مهرجان "هوى المنامة" ومبادرات أخرى نأمل أن ترى النور بسرعة، تستعيد بريق ماضيها في صيغة احتفالية تجمع الأهالي والزوار على حب المنامة والاعتزاز بهويتها، إنها دعوة مفتوحة لسكان المدينة وضيوفها للسير في دروب المنامة القديمة، والاستماع لحكاياتها الدفينة، واستشعار روحها الأصيلة التي مازالت تنبض في كل ركن منها، وفي هذا السياق، يحسب للقائمين على هذه التجربة، وفي مقدمتهم سارة بوحجي، هذا الجهد الواضح في تقديم المنامة بروحها وذاكرتها، وبما يليق بمكانتها في وجدان البحرين، وهكذا تبقى المنامة، العاصمة الأبدية للبحرين، رمزاً حياً للتاريخ والتراث والثقافة التي تتجدد عبر الزمن.