في خطوة تحمل رسائل اقتصادية واجتماعية متعددة، أعلن مجلس الوزراء مؤخراً عن حزمة قرارات تهدف، بحسب التصريحات الرسمية، إلى تعزيز متانة الاقتصاد الوطني وضمان استدامة المالية العامة، هذه القرارات، التي تتراوح بين خفض الإنفاق وزيادة الإيرادات عبر رسوم وضرائب مستهدفة، تضعنا أمام مشهد معقد، يتقاطع فيه منطق ضرورات الإصلاح المالي الطارئ مع هاجس الحفاظ على استقرار المعيشة ودعم النمو الاقتصادي.
من جهة، تقدم الحكومة رؤيتها التي تبدو، من الناحية النظرية، شاملة ومتدرجة. فهي لا تطلب تضحيات من طرف واحد، بل تبدأ بترشيد إنفاقها الداخلي عبر خفض المصروفات الإدارية، ثم تبحث عن موارد جديدة من خلال استهداف أرباح الشركات الكبيرة وفرض رسوم على أراضٍ استثمارية معطلة، مما يعزز فكرة تنويع الإيرادات بعيداً عن النفط، كما أن فلسفة تصحيح أسعار الدعم تظهر في تركيزها على رفع كفاءة تقديمه، بحيث يوجه للمواطن في مسكنه الأول مع تحميل الفئات التجارية والأجنبية قدراً أكبر من التكلفة الفعلية للمرافق مثل الماء والكهرباء والغاز والصرف الصحي. حتى في ملف التوظيف، تقدم الرؤية الحكومية قرار مراجعة رسوم عمل الأجانب كأداة لدعم أولوية المواطن في سوق العمل.
تدرك الحكومة أن نجاح هذه الإجراءات مرهون بتنفيذها ضمن إطار متكامل من الضمانات المصاحبة، والتي تشمل حماية جميع الفئات، وتحفيز القطاع الخاص عبر تسهيل الإجراءات للمستثمرين، ودعم سوق العمل الوطني، كما تؤكد على أهمية التدرج في التطبيق لإتاحة الوقت الكافي للتكيف مع المتغيرات.
إن التوقيت الحالي لهذه الخطوات يأتي استجابة لمتغيرات اقتصادية دولية تتطلب سياسات استباقية واعية، ضمن رؤية طويلة المدى لاقتصاد أكثر تنوعاً ومرونة، وتعول الحكومة على مواصلة الحوار البناء مع جميع الأطراف، وعلى الشفافية في المتابعة والتقييم، لتحويل هذه القرارات إلى واقع إيجابي يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني والمواطن على حد سواء، في مسيرة جماعية نحو مستقبل مالي أكثر استقراراً وعدالة.
في النهاية، القرارات تمثل جرعة علاجية قوية، ولكن نجاح العلاج يعتمد على قوة المناعة الاقتصادية للمجتمع، وعلى وجود سياسات مرنة ومشجعة. الخلاصة ليست في القرارات ذاتها، بل في قدرة الجميع على تحويلها من أرقام في بنود الميزانية إلى خطوات حقيقية نحو اقتصاد أكثر مرونة واستدامة.