عندما تغيب ثقافات «راقية» عن حياة الشعوب والمجتمعات، تتحول هذه المجتمعات إلى غابات فعلية، بل تنحدر فيها الممارسات إلى أدنى مستوى من مستويات التعامل، ورغم أن الله عزوجل قال في محكم التنزيل: «ولقد كرمنا بني آدم»، إلا أن كثيراً من أبناء آدم لا يقتنعون بتكريمهم عن بقية المخلوقات، فينحدرون في مستنقعات التصرفات الخاطئة والممارسات المعوجة.

أكبر كارثة يواجهها مجتمعنا تتمثل في أمور جوهرية معنية بمعيار «الصح والخطأ».

كلنا نقول إن الأخطاء واضحة، وأن هناك مشاكل لا تحتاج لأعين خبير حتى تكون واضحة، لكن المصيبة لدينا أنه لا يوجد هناك اعتراف بالخطأ، لا يوجد هناك اعتراف بالمشكلة، ولا يوجد تحمل ذاتي للمسؤولية.

يقولها كثير من المسؤولين، لكنها تبقى شعارات لا تطبيق واقعياً حقيقياً لها، يقولون «رحم الله من أهدى إلي عيوبي»، ويقولون «الكرسي تكليف وليس تشريفاً»، ويقولون ويقولون، لكن الواقع يقول شيئاً آخر.

أعطونا مسؤولاً واحداً اعترف يوماً بأنه «أخطأ»، أعطونا وزيراً قال يوماً إنه «فشل» في موضوع ما، أعطونا أي أحد فقط يعترف ويؤمن بأن «الاعتراف بالذنب فضيلة».

في مجتمعاتنا يسود «التنظير»، تجد كثيرين تحولوا لمنظرين بل محاضرين و«بياعي كلام»، نعم «كلام» و«مجرد كلام»، لأنك تتفاجأ حتى بمن يتحدث عن الفضائل والمثاليات هو من يقوم بنقيضها، تتفاجأ بمن يحاضر في الناس عن النظريات والأسس الصحيحة للإدارة هو فاقد لأبسط مقومات الإدارة، وتتفاجأ بمن كل كلامه تصحيح ومحاربة أخطاء بأنه يرى الأخطاء ويقبل بها.

المعايير مقلوبة، واعتدنا في المجتمعات العربية أن نعيش على إرث السابقين في قرون ماضية، ونتباكى ونقول «كنا وكنا»، لكن الواقع يقول «أين أنتم اليوم»؟! بل واعتدنا أن نتغنى بالمثاليات وقال فلان وعلان، وباتت وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالأقوال المأثورة وبكلام عن الإدارة المثالية وعن الصفات القيادية وعن أدبيات الصواب والخطأ، لكن الواقع يقول شيئاً آخر، الواقع يقول إنه في مواقع التواصل الاجتماعي تجد مليون «أفلاطوني»، وفي مواقع العمل أيضاً تجد ألف خبير إداري لكن الحقيقة تقول إننا نعاني من فشل كبير، من كلام يطلق في الهواء على عواهنه، نعاني من شعارات بالونات الهواء أقوى وأصلب منها.

لا توجد في مجتمعنا ثقافة الاعتراف بالخطأ، ولا توجد لدينا ثقافة الإقرار بالفشل، الجميع مخطط رهيب، والجميع مفكر استراتيجي، والجميع أفضل من يرسم السياسة العامة للدولة أو القطاع المعني به، والنتيجة كلها تجدونها في تقارير الرقابة المالية والإدارية على سبيل المثال.

من الأدبيات التي يروج لها البعض مآثر تقول إن «الفشل سبب من أسباب النجاح»، وأنه «حتى تحل مشكلة يجب عليك أولاً الاعتراف بها»، لكن هذه الأدبيات لا يلقى لها بالاً لأن تطبيقها يعني أن يكون الشخص أولاً صاحب ذمة وضمير، أن يكون قبلها أيضاً صاحب مبادئ وقناعة بأن الصواب يجب أن يسود وأن الخطأ يجب أن يزال ويقوم، فهل هذا يحصل؟!

لا والله، ونكرر أعطونا أمثلة على من يقر بارتكابه أخطاء ومن يقع في الفشل، لن تجدوا أحداً، نعيش في مدينة فاضلة «افتراضية» لا وجود لها على أرض الواقع.

هناك من يظن أن الاعتراف بالخطأ يعني التقليل من شأنه أو التشكيك في قدراته، أو حتى في من يسند لهم المهام، لكن هذا مفهوم خاطئ تماماً، الإنسان الناجح والشجاع والأهم فوق ذلك «الواقعي» الذي يريد التغيير الحقيقي هو من يعترف إن أخطأ بشجاعة، هو من ينهض من الفشل ليبني عليه ويحقق النجاحات، هو من يدرك بأن الاعتراف بالتعثر لا يعني «السقوط» من عيون البشر، بل على العكس «المكابرة» في الإقرار بوجود الأخطاء هو ما يجعل الناس تنظر لأي شخص يقوم بهذا الفعل نظرة شك وريبة ولا تمنحه ثقتها المطلقة في المرات القادمة.

لدينا عقدة متأصلة في العقول للأسف، نقولها ونكتبها كشعارات بأن «الاعتراف بالذنب فضيلة»، لكن ما نؤمن به ونطبقه لا يخرج عن قول «محرف» يقول: «الاعتراف بالذنب.. فشيلة»! وسأزيد من عندي وأقول: «بل الاعتراف بالفشل في هذه البلد فضيحة»!